الاقتصادات الكبرى تعزز «الحمائية» وحكومتنا ترفضها

«لا للسياسات الحمائية بعد اليوم.. نعم لتحرير التجارة الخارجية، وتعزيز قدرات المنتجات الوطنية»! بهذا الوضوح أعلنت وزيرة الاقتصاد والتجارة لمياء عاصي خطتها وتوجهات وزارتها المستقبلية، رافضة وبشكل قطعي إتباع السياسات الحمائية بعد اليوم، وكأنه الحد الفاصل بين الأمس والمستقبل، متجاهلة الضرورات التي تقتضي وجود هذا النوع من الحماية للمنتج الوطني، أو على الأقل ضرورة السعي لتطوير هذا المنتج الوطني، وتحسين مستوى تنافسيته وجودته، وذلك قبل إدخاله في منافسة لن تكون متكافئة في الوضع الحالي، كما أن تعزيز قدرات المنتج الوطني تتم من خلال تأمين الحماية اللازمة له، والتي تعطيه تفوقاً نسبياً على المنتجات الأجنبية «الغازية»، على الأقل في سوقه المحلية..

فلا وجود لما هو قطعي ونهائي في تنفيذ السياسات الاقتصادية أساساً، بعكس اللهجة التي تحدثت بها وزيرة الاقتصاد، لأن تجارب الاقتصادات الكبرى في العالم، تبين أن هذه الدول هي أول من تخرق قواعد اللاحمائية، حفاظاً على منتجها الوطني، وهي ذاتها اليوم التي تدعونا إلى تحرير التجارة الخارجية، وإلغاء جميع الرسوم الجمركية، وفتح أسواقنا ومنتجنا الوطني أمام المنافسة الخارجية «الشريفة» حسب تعبيرهم.

تجربة حمائية بامتياز

إن تجارب الاقتصادات الكبرى في العالم توضح حجم الحمائية الفعلية التي تمارسها هذه الاقتصادات ضد بعضها، بغض النظر عما تحاول قوله نظرياً، وهذا يدفعنا للتساؤل عن الإجراءات التي يتوجب اتخاذها من جانب الاقتصادات الصغرى أمام عمالقة الاقتصاد عالمياً! ألا يفترض ذلك مضاعفة هذه الحماية وتعزيزها بدلاً من إلغائها؟!

فالولايات المتحدة الأمريكية التي يضرب بها المثل عالمياً عند الحديث عن الحرية الاقتصادية، سعت لفرض رسوم على الكثير من البضائع المستوردة حفاظاً على منتجاتها الوطنية، وهي الدولة الصناعية الكبرى، وصاحبة أكبر اقتصاد في العالم، ويفترض بها أن تكون واثقة من إمكانيات منتجها الوطني على المنافسة، ففي مطلع شهر حزيران من العام 2010، حددت وزارة التجارة الأميركية رسوما نهائية تصل إلى أكثر من 437% على أسلاك الصلب المنتجة في الصين، وفرضت رسوماً لمكافحة الإغراق تتراوح بين 14،3 ـ 143 بالمئة،كما فرضت رسوما تعويضية تتراوح بين 1،52 ـ 437،11 بالمئة لتعويض الدعم الحكومي الصيني للمنتجين الصينيين، وهذه الخطوة لم تكن قفزة في المجهول، بل استكمالاً لخطوات سابقة في حماية منتجاتها، حيث فرضت الولايات المتحدة رسوماً بنسبة 10% على واردات الخشب الكندي الذي يعد من أهم الصادرات الكندية.

وفي شهر نيسان من العام2010، قررت الولايات المتحدة فرض رسوم مكافحة إغراق تتراوح بين 36،53 ـ 99 بالمئة على واردات الأنابيب الفولاذية الصينية التي تستخدم في آبار النفط والغاز. وفي العام 2009، فرضت الولايات المتحدة الأمريكية رسوماً جمركية تصل إلى 35% على إطارات السيارات الصينية الصنع.

وفي الرابع من شهر آذار عام 2008، فرضت وزارة التجارة الأمريكية رسوم مكافحة إغراق أولية على واردات الطوب الكربوني القادمة من الصين، وهذه هي بعض الرسوم الجمركية التي فرضت خلال عام ونصف فقط من الولايات المتحدة على المنتجات المنافسة لمنتجاتها المحلية دون مراعاة الاتفاقيات الثنائية، الإقليمية، أو الدولية الموقعة عليها. 

مخالفة الاتفاقيات

إن الحمائية التي تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بفرضها تخالف في كثير من الأحيان الاتفاقيات التي قامت الولايات المتحدة الأمريكية بالتوقيع عليها سواءً كانت على المستوى العالمي أو الإقليمي، حيث إن الولايات المتحدة الأمريكية تعمل وفق قانون «تعديل بايرد» الأمريكي الذي يحول الأموال الناتجة عن رسوم مكافحة الإغراق إلى شركات أمريكية متضررة اقتصاديا، هذا القانون المخالف أساساً لقواعد منظمة التجارة الدولية، ورغم ذلك فإنه ما يزال مطبقاً.

ومنذ العام 1979، تعمل الولايات المتحدة بقانون إدارة الصادرات الأمريكي الذي يقيد مبيعات صادرات السلع التجارية فائقة التكنولوجيا للصين، والذي يوفر إجراءات حماية غير قانونية للبضائع الأمريكية.

كما أقرت الولايات المتحدة الأمريكية في آذار 2010 قانوناً حمائياً، ألغت بموجبه المبادرة التي تسمح للشاحنات المكسيكية استخدام الطرق الأمريكية، مخالفة بذلك اتفاق التجارة الحرة في شمال أمريكيا (نافتا) لعام 1994. 

الصين.. الاتحاد الأوربي.. والحمائية

كما أن الصين أيضاً، وهي صاحبة ثاني أو ثالث أكبر اقتصاد في العالم، والتي تغزو منتجاتها جميع الأسواق العالمية دون استثناء، كان لها نصيبها من الإجراءات الحمائية، والتي تجسدت بشكل أساسي بفرض الرسوم الجمركية، ففي شهر نيسان من العام 2010، قامت الصين بفرض رسوم مكافحة الإغراق تتراوح ما بين 7،8 ـ 64،8 بالمئة على الواردات الأمريكية من الصلب الكهربائي، كما فرضت أيضاً رسوم مكافحة الدعم ما بين 11،7 ـ 44،6 بالمئة، هذا بالإضافة إلى فرض رسوم مكافحة إغراق ما بين 6،3 ـ 25 بالمئة على الصادرات الروسية من الصلب أيضاً.

في شهر شباط من العام 2010، أعلنت وزارة التجارة الصينية أنها ستفرض رسوماً جمركية لمكافحة الإغراق تتراوح من 43،1 إلى 105،4 بالمئة على منتجات الدواجن الأمريكية المصدرة إلى الصين، كما فرضت الصين رسوماً على سحابات الكربون الصلب المستوردة من الاتحاد الأوروبي، التي تستخدم في صنع السيارات والمعدات والآلات الالكترونية والكهربائية.

وفي خطوة سابقة، فرصت الصين في شهر تشرين الثاني من العام 2009 رسوم مكافحة إغراق لخمس سنوات، تتراوح من 5إلى 35،4 بالمئة، على واردات حمض الأديبيك من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وجمهورية كوريا.

كما أن للاتحاد الأوربي مجتمعاً، ولكل واحدة من دوله على انفراد سياسة حمائية، والتي تكفل الحفاظ على منتجها الوطني أيضاً، وهذه الدول وللتذكير فقط، هي صاحبة تاريخ صناعي يمتد لأكثر من 200 عام، وليست ناشئة وبدائية كحال أغلب صناعاتنا الوطنية، ففي العام 2006، قرر الاتحاد الأوربي فرض رسوم إغراق لمدة عامين بنسبة 16،5 بالمئة على الأحذية الجلدية الصينية، وكان الاتحاد الأوربي فرض رسوما على عدد من الصناعات الأمريكية مثل الورق والملابس والنسيج والأحذية بتكلفة تصل إلى 28 مليون دولار، أما كندا فقد فرضت رسوماً بقيمة 14 مليون دولار على منتجات أمريكية مثل السجائر والمحار.

إصرار حكومي غير مبرر

إن هذه التجارب والشواهد التي تم سوقها من الاقتصادات العالمية ليست إلا جزءاً بسيطاً من السياسات والإجراءات الحمائية التي تتبعها هذه الدول، هذه الاقتصادات الكبرى التي خالفت بهذه الحمائية المتبعة قواعد منظمة التجارة العالمية المنتمية إليها منذ نشأتها، والمخالفة أيضاً لمجموعة كبيرة من الاتفاقات الثنائية والإقليمية الموقعة مع عدد من الدول، أفلا يفترض بنا نحن أصحاب أصغر الاقتصادات على المستوى العالمي، اتخاذ هذا النوع من الإجراءات الحمائية بدلاً من القول القاطع بأن لا عودة إلى السياسات الحمائية، وهل سيستفيد الاقتصاد الوطني من هذه السياسات  اللاحمائية؟! أليس المنتج والاقتصاد الوطني هو الخاسر الأول من إلغاء الحماية الحالية؟ ولماذا الإصرار الحكومي  ـ غير المبرر ـ على حرمان المنتج الوطني من حقه في الحماية؟!