المنظمة والمرجعية...هل من تناقض؟
لم يكد وقف إطلاق النار «الشكلي» يأخذ طريقه للتنفيذ المتعثر، بسبب استمرار الحرب العدوانية الوحشية على غزة، بالنيران تارة، وبالحصار، والإغلاق، والمخططات السياسية تارة أخرى، حتى تفجرت «ألغام» جديدة على طريق القوى السياسية الفلسطينية، الصاعدة نحو مواجهة نتائج المذبحة/ المجزرة التي مازالت مستمرة على شعبنا وقضيتنا، رغم وجود عشرات الجثث تحت آلاف الأطنان من الكتل الاسمنتية العملاقة، وتشريد أكثر من ثلاثين ألف عائلة، في ظل خراب شبه شامل في البنية التحتية للقطاع. يتطلب هذا المشهد الاستثنائي لمواجهته، قوى وفعاليات وجهوداً استثنائية أيضاً، يتشكل مركزها في مجتمع متماسك، وقيادة سياسية موحدة للحركة الوطنية، تعمل للنهوض بالوضع السياسي/الاقتصادي/المعيشي من أزمته الراهنة، بهدف تمتين وتصليب النسيج المجتمعي، ليكون الحاضنة الحقيقية، والسياج الحامي لقوى المقاومة.
في ظل هذا الحراك السياسي، المحلي والاقليمي والدولي، جاءت ردود الفعل على مضمون الكلمة التي ألقاها خالد مشعل في مهرجان نصرة غزة الذي شهدته مدينة الدوحة مؤخراً، لتضيف عقبة «نوعية» من العيار الثقيل- كما وصفتها عدة مصادر داخل البيت الفلسطيني- فاجأت الجماهير العربية في أكثر من مكان، خاصة الشعب الفلسطيني، و«بعض» فصائله. وهذا البعض أصر طوال عقود، خاصة في السنوات الأخيرة، على دفن وجهه في رمل التسويات والصفقات، وصم أذنيه على صوت الاحتجاجات المتتالية والمنتشرة كبقعة الزيت، والهروب نحو سيف الاشتراطات المسلط على رقاب كل القوى والشخصيات، عند كل مقاومة- مهما كان شكلها وتأثيرها- للتفرد والاستئثار والتنازل. أما العديد من القوى السياسية، واللجان الشعبية والمنتديات المستقلة عن القوى والفصائل، الناشطة في كل مخيم وتجمع فلسطيني، لم تقف مندهشة أمام الخطاب/الدعوة. إذ كانت جميعها تفتح حواراً نقدياً في كل لقاء لها، يتناول مراحل النمو والتعثر في المسيرة الكفاحية لشعبنا، ويتوجه النقاش الساخن في القلب منها، نحو كياننا السياسي الجامع، ووطننا المعنوي، وأداتنا الائتلافية الكفاحية: منظمة التحرير الفلسطينية، بميثاقها القومي/الوطني الناظم لتوجهاتها، والتي مازالت أهدافها «وحدة وطنية، تعبئة قومية، تحرير» تحيط بالاسم كما صاغها مؤسسها وأول رئيس لها، ابن فلسطين والأمة أحمد الشقيري. والسؤال الذي يتردد في كل حلقة واجتماع وندوة، يبحث فيها المشاركون عن أسباب المأزق/الأزمة، هل للمنظمة تلك أي وجود الآن؟ وهل الهياكل الراهنة، والمفرغة من كل المحتوى الكفاحي والسياسي، والفاقدة للشرعية القانونية والسياسية لها علاقة بميثاق وهيئات ونظام عمل المنظمة؟ خاصة بعد الولادة القيصرية لـ«اتفاق أوسلو» سيئ الصيت، داخل الغرف المظلمة في أكثر من مدينة وعاصمة. هذا الاتفاق الذي أنجب «سلطة» مشوهة لإدارة حكم ذاتي، تابع لدولة العدو الاحتلالي الاستعماري، عملت على الغاء دور ووظيفة المنظمة- رغم أنها كانت تعاني منذ سنوات من التفرد والتهميش- بل قامت باستيعاب- حتى لانقول بافتراس- دوائرها ومؤسساتها، ومن ثم لتفقد المنظمة وجودها وكيانها. لكن كل ذلك لم يمنع قادة السلطة من استحضار هياكل المنظمة، مؤسسات وأسماء، الذين تتجدد مراكزهم وادوارهم، بناء على اجتهادات بضعة أشخاص في المقاطعة، بعيداً عن القوانين والأنظمة المعمول بها في المنظمة. فالمجلس الوطني مُجَمد منذ عقود، والصندوق القومي ألحق بوزارة مالية السلطة، والسفارات والممثليات تم سحبها من الدائرة السياسية للمنظمة لتتبع وزارة الخارجية. كما أن ماتعرض له جيش التحرير الفلسطيني ومركز الأبحاث والاتحادات النقابية الشعبية، يفضح طبيعة المخطط الذي جرى تنفيذه لشل قدرات المنظمة.
كلام مشعل فاجأ أكثر من طرف، لسبب محدد، فرضته نوعية القائد والتنظيم، وخصوصية المرحلة. وقراءة متأنية لمضمون الفقرة يوضح المقصود، بعيداً عن التأويلات، وحكم النوايا المسبقة. يقول قائد حماس بالمهرجان: «مانتداوله نحن قوى المقاومة... أننا سنعمل على بناء مرجعية وطنية تمثل الداخل والخارج، وتضم جميع القوى والمنظمات والشخصيات الوطنية...). هذا التداول، والتفكير بصوت عالٍ، قرأه الكثيرون، بأنه إعلان البيان الأول للانقلاب على المنظمة. ومما فاقم من المخاوف ماصرح به القيادي في حماس خليل الحية أثناء مهرجان للحركة بعد ذلك بيومين فقط، عندما تحدث عن كون (المنظمة ميتة وفي ثلاجة الموتى). ولانكشف سراً عندما نقول أن منتقدي هذا الكلام قد انطلقوا من موقفين. الفريق الأول، وهو الغالبية الشعبية الكبيرة، المرتبطة بالنضال الوطني والمتلاحمة به، والمتفانية في الاخلاص للقضية الكفاحية للشعب، والمتمسكة بوحدانية تمثيل الشعب في كيان المنظمة الوطني والكفاحي والمعنوي، مخلص لقضية فلسطين ووحدانية تمثيل الشعب الفلسطيني ومشروعيته في إطار «وطنه المعنوي» منظمة التحرير، وأعتقد أن هذا الصنف يضم شريحة عريضة وواسعة من المواطنين الفلسطينيين... أما الفريق الثاني، فهو القلة من الفلسطينيين، الذين ارتبطوا بالفساد، والامتيازات، و«نِعَمَ» التنسيق الأمني، والصفقات. وهؤلاء هم أنفسهم الذين يمارسون عبر الفضائيات والمكروفونات، العداء للمقاومة وللجماهير العربية الغاضبة في الشوارع، وللحكومات العربية والصديقة، الداعمة لصمود ونضال الشعب الفلسطيني في وجه أعدائه. إنهم المختطفون الحقيقيون للمنظمة ولنضالات شعبنا.
إن إعادة الحياة للمنظمة أمر ممكن وملح، وهذا لن يتأتى إلاّ بتحالف/تكتل/تجمع، يضم القوى واللجان والشخصيات الفاعلة في النضال السياسي والعسكري المقاوم للاحتلال وللمشروع الصهيوني/الأمريكي في وطننا. ومن هنا يصبح الدور المنوط بهذا التكتل/المرجعية، العمل من أجل إعادة استرداد المنظمة، وإعادة بنائها بشكل ديمقراطي، قائم على مبدأ الانتخاب، مما سيعيد للمنظمة دورها ووظيفتها، وسيجعلها قولاً وفعلاً، الكيان السياسي الجامع، والوطن المعنوي للشعب الفلسطيني. لقد عرفت الحركة الوطنية الفلسطينية في مسيرتها الكفاحية أشكالاً عديدة من التحالفات الثنائية والرباعية بين القوى والفصائل، وما تجربة «جبهة الرفض» و«التحالف الديمقراطي» سوى شواهد على ذلك. إن قوى فاعلة وأساسية، تمتلك رصيداً جماهيرياً، وتراثاً كفاحياً، ودوراً بارزاً في معارك المواجهة مع العدو الصهيوني، مدعوة اليوم للعمل والمشاركة في تشكيل هذه المرجعية، الضاغطة والفاعلة من أجل تطوير وتثوير المنظمة. وفي هذا التوجه تنعدم وتتلاشى أية تناقضات في عملية بناء المرجعية/التحالف، المنطلقة من، والمستندة إلى برنامج كفاحي يساهم بإدامة الاشتباك مع العدو، مع عملية استعادة المنظمة.
إن العقلية الانقلابية فقط، هي التي ترى أن محاولة لتصحيح وضع العربة «المنظمة» على سكة السلامة الوطنية، هو المغامرة والتخريب والعبث. بينما يرى الوطنيون، أن منظمة التحرير في مراحل التأسيس والانطلاق والعبور نحو العالم، هي منظمتهم التي كانت- وستعود- الإطار الحقيقي الذي يجمع القوى الفلسطينية من أجل تحقيق الوحدة الوطنية والتحرير.