الولايات المتحدة «تقصف» والليبرالية السورية تنتعش!

الولايات المتحدة «تقصف» والليبرالية السورية تنتعش!

غاب عن التصريحات الحكومية كل ما أقحمته الظروف الضاغطة للحرب من مقولات إيجابية. لم يعد أحد يتحدث عن ضبط السوق، أو سلة غذائية، أو الحفاظ على الدعم، ولم يعد أحد يتحدث عن ضبط الاستيراد وحصره بالضروريات، وتحجيم سوق الصرف والمضاربة وإغلاق مكاتب  الصرافة المخالفة، ومصادرة أموال، والمحافظة على احتياطي القطع الاجنبي.

فعلى الرغم من أن الحرب في سورية في أكثر لحظاتها اتقاداً وخطورة، إلا أن الكثير من الإشارات تدل ان الليبراليين في سورية في أكثر لحظاتهم انتعاشاً.

 

نتائج اليوم أفعال الأمس

رئيس اتحاد غرف التجارة السورية، يعلن في لقاء تلفزيوني أنه من حق التجار أن يفرضوا أي سعر في ظرف اضطراب سعر الصرف، كي لا يخسروا وترتفع كلفهم، تزدهر سوق العقارات وصياغة الذهب وتجارته في سورية كتعبير عن تحويل (نخبة الأعمال) لأرباحهم القادمة من جيوبنا وأجورنا وليراتنا إلى أونصات وليرات ذهبية مكدسة وإلى أصول وعقارات ثابتة.  المضاربة على سعر الصرف أصبحت النشاط الرئيسي لكل من يحصل على أرباح كبيرة في سورية، ومصرف سورية المركزي يحفز السوق للمضاربة عن طريق المزيد من الضخ، ومزيد من ترخيص شركات ومكاتب الصرافة، ليعلن أنه (اكتشف) وأخيراً سبب عدم نجاح سياسة ضخ القطع الأجنبي في خفض سعر الصرف او التحكم الدائم به، ويتوعد بانه سيضخ القطع الأجنبي حتى في الأعطال، حيث اعتبر أن تركه لأيام العطل بدون ضخ، هو سبب التلاعب في السوق!! وزارة الاقتصاد والمركزي تستمران  بطمأنة التجار إلى أن تمويل مستورداتهم مستمر، ولن يكون هناك أي ضبط أو ترشيد للاستيراد، حيث يستطيع التجار الحصول على تمويل لمستورداتهم بالقطع الأجنبي دون قيد أو شرط.

التجارة أي السوق الشرعية وغير الشرعية، تأكل كامل دخل ما تبقى من المزارعين، عن طريق رفع أسعار مستلزمات الإنتاج، وتخفيض أسعار الجملة، والنتيجة أن زراعات بأكملها مهددة بعدم الاستمرار، كالبندورة والبطاطا والحمضيات، إذا بقيت السوق بلا تدخل ودعم حكومي.

والنتيجة الأبرز أن كل أسرة سورية من خمسة أشخاص دخلها أقل من 52 ألف ل.س تقريباً هي في دائرة الفقر، أي كافة أصحاب الأجر الذين يبلغ متوسط أجورهم أقل من 20 ألف ل.س هم فقراء. وهؤلاء مع أسرهم حوالي 80% من السوريين قبل الأزمة. وتحديداً إن نصف هؤلاء عاطلون عن العمل، و نصف أطفالهم خارج المدارس وفي أسواق العمل، أو خيام اللجوء او الاثنين معاً.

هذه أبرز نتائج الانحياز في السياسة الحكومية خلال الفترة الماضية. إلا أن البيان الوزاري يوضح أننا مع الحكومة الجديدة- القديمة، ننتقل نحو  خطوة تصعيدية في طريق تسليم السوق دفة التحكم، عبر (عقلنة الدعم) كتتويج لسياسة ضبط نفقات الدولة على مواطنيها، والالتزام التام بحفظ موارد الفساد.

 

(عقلنة الدعم)

الحكومة تريد أن (تعقلن الدعم)!. أي رفع وإلغاء الدعم وتحويل السعر إلى سعر سوقي مكون من التكلفة مع هامش ربح، ما يعني تحرير السعر لتتحكم به السوق عن طريق العرض والطلب،  وبالمقابل (العقلنة) ستكون في توزيع مبالغ نقدية (لمستحقي الدعم) أي للمواطنين السوريين. لتلخص هذه السياسة كل ما تريد الحكومة قوله: (قوى السوق هي التي تدير وتحرك اقتصاد البلاد، والمواطن يدفع لهم ثمن الحرب).

إن وجود سعر منخفض لحوامل الطاقة، هو الوسيلة الأهم والوحيدة  لمنع ارتفاع المستوى العام للأسعار إلى حدود قصوى جديدة، أي هو وسيلة حماية لقيمة الليرة السورية، أما رفع الأسعار، فسيطلق العنان للفوضى وارتفاع الأسعار لتتبخر المبالغ النقدية التعويضية المدفوعة للمواطنين، (إن دفعت). وستنتقل السوق السوداء من العمل السري إلى العمل العلني، ويكون لها كامل الحق برفع الأسعار فالمحروقات حررتها السياسات الليبرالية من سيطرة الدولة!.

 

موازنة النفقات والموارد

يعدد البيان الوزاري الجديد إنجازات الحكومة ووعودها وأعباءها والمبالغ التي تنفقها من موارد الدولة والسوريين، للمحافظة على (صمود الشعب السوري)، إلا ان الواقع يرسم صورة مخالفة لهذه الإنجازات. حيث جاء في بيان وكالة الأنباء سانا بتاريخ 24-9-2014، حول جلسة مناقشة البيان الوزاري للحكومة الجديدة، أن (الحكومة تسعى جاهدة إلى تحقيق التوازن بين الموارد والإنفاق).

تجلت سياسة ضغط النفقات الحكومية، بضغط المواطنين فقط، وتحصيل الموارد منهم، فحصّلت الحكومة موارد زهيدة للخزينة العامة، من أماكن دعمها السابقة للمحروقات، للمواد التموينية (الخبز، السكر والأرز)، للاتصالات، للانترنت، للكهرباء، وللمياه. دفع السوريون ثمن محاولة الحكومة موازنة نفقاتها، بينما تركت بوابات الفساد والربح الأعلى مفتوحة على مصراعيها دون أدنى محاسبة أو ضبط، في مختلف هذه القطاعات المذكورة.

 

فساد في توزيع المحروقات

فزادت الحكومة الموارد مما دفعه السوريون، مقابل استخدام المحروقات للتدفئة للنقل ولغيرها، لتدفع الأسر السورية مبالغ إضافية إلى السوق السوداء التي بقيت توزع الجزء الأكبر من هذه المواد، وتتحكم بالسعر الموازي لتحصل على أرباح خيالية، فعلى سبيل المثال خلال يوم واحد توزع فيه السوق السوداء  10 آلاف ليتر المازوت بسعر 120 ل.س، فإنها تحصل على ربح 600 ألف ل.س، أما شهر من التوزيع بالسعر المضاربي فيحقق ربحاً (لموزع أسود) بمقدار 18 مليون ل.س، أما أسبوع في محافظة ريف دمشق في عام 2013، وفق بيانات حصلت عليها قاسيون ونشرتها في عددها رقم (588) بمادة بعنوان (حصة ناهبي المازوت في ستة أيام من عمر الأزمة) بتاريخ 4-2-2013.فقد حققت  سوق التهريب المباشر أرباحاً تقدر بـ 90 مليون ل.س من نقل صهاريج محروقات إلى مناطق حدودية غير مأهولة وإلى كازيات مغلقة في مناطق متوترة!.

كلما ازدادت الفوضى ازدادت كمية المحروقات الموزعة عن طريق السوق السوداء، وازدادت القدرة على رفع السعر، وازدادت بالتالي الأرباح غير المشروعة الموزعة بين حيتان السوق السوداء، وكبار سماسرة وفاسدي جهاز الدولة من المسؤولين عن استيراد، إنتاج، توزيع، وتخزين المحروقات، لأنهم مصدر المادة أولاً، والمتحكمون نسبياً بالتستر أو ضبط السوق ثانياً، ليحصلوا بالتالي على حصة هامة من هذا الربح المضاربي، من جيوب السوريين.

وبالفعل خسارة موارد النفط السورية، يدفع ثمنها السوريون، ويربح ثمارها السماسرة والسوق.

 

فساد في استيراد الحكومة

كذلك الأمر في نفقات  الحكومة على استيرادها العام،  فقد أعلنت أنها تدعم مستوردات القطاع العام يومياً بمبلغ 2,5 مليون يورو، ولكن الحكومة بالمقابل لم تجاوب السوريين عن الأسئلة التي طرحت حول كلف استيراد الحكومة التي تبلغ أرقاماً تفوق أعلى الأسعار العالمية، وأي تكلفة معقولة للنقل والتخزين وغيرها.

فكلف استيراد السكر تبلغ 800$ للطن، مقابل الأسعار العالمية البالغة 436 $ للطن، تبلغ 654$ مع تقدير للكلف والخزن والنقل، أي أن استيراد 300 ألف طن سكر بهذا السعر، يختفي فيه مبلغ 6,4 مليار ل.س غير مبرر، أي مبلغ منهوب. وكذلك الأمر في استيراد الطحين حيث بلغ مبلغ التكلفة غير المبرر، مقدار 100 مليار ل.س، لاستيراد 2,4 مليون طن عام 2013، وهو ناتج من احتساب فارق بين الاستيراد الحكومي من الأموال المجمدة في المصارف الفرنسية، وبين أسعار الطحين في روسيا على سبيل المثال، وهكذا في ما تبقى من عمليات الاستيراد الحكومي التي لا يصرح عن كلفها.

 

فساد في (ترك) الربح الكبير

وبينما زادت الموارد الحكومية، من أجور مكالماتنا المحلية، تُركت أرباح شركات الاتصالات الخليوية الخاصة دون المس بها، بل سعت الحكومة - دون ان تنجح حتى الآن- إلى نقل ملكية هذه الشركات بشكل كامل للقطاع الخاص، أي التخلي عن حصة الدولة من الإيرادات التي يفترض أن تبلغ 60%، بالتالي كانت الحكومة التي تعتبر أن نقص الموارد هو عبئها الأول، مستعدة لان تتخلى عن إيراد الدولة السنوي من هذه الشركات الذي يفترض أن يصل إلى أكثر من 40 مليار ل.س.

 

فساد حيث توجد موارد!

تجاهلت الحكومة الكثير من ملفات الفساد التي توثق وجود نهب للمال العام، في المواضع التي لا تزال تنتج موارد للدولة، كالمرافئ والمعامل الكبرى، والنتيجة كانت أن ارتقى فاسدون في سلم الفساد الحكومي، من مدراء إلى وزراء، ومن مدراء معامل إلى مدراء مؤسسات وهكذا..

 

«رخاوة» لا سابق لها

مقابل تشدد الحكومة مع الموظفين وحالات الفصل المتكررة، فإن (الصفح) كان عنوان العلاقة مع شركات صرافة مضاربة، حيث أغلقت مكاتب رئيسية لشركات صرافة لمخالفتها القوانين وإتجارها بالقطع الأجنبي بشكل غير شرعي، وتلاعبها بسعر الصرف، ثم عادت هذه الشركات لتشتري مليون دولار في جلسة المركزي الأخيرة، وينطبق الأمر على أغلب الشركات والمكاتب التي أوقفت في حملات سابقة. وكذلك الأمر بالنسبة للتجار الذين حصلوا على القطع لتمويل مستوردات لم تستورد، أي بفواتير مزورة للمتاجرة بالقطع في السوق السوداء. وكانت النتيجة أن الحكومة وضعتهم على لوائح سوداء نتيجة المخالفات وعادوا للاستيراد بلا ضابط، واكتفت الحكومة بفرض ضرائب على أرباحهم من المخالفات!، أي تشريع لأرباحهم غير الشرعية..

الغاية من جردة الحساب السابقة، تسجيل كيف اشتركت قوى الفساد والليبرالية في تصعيد الهجوم على موارد الدولة والشعب السوري في أكثر لحظات البلاد صعوبة وخطورة.