صابر وصبرية
لكل مرحلة من مراحل عمر الإنسان نكهتها المميزة وجوها الخاص، ولاشك أن أجملها وأعذبها على الإطلاق مرحلة الطفولة بعالمها المترع بالعفوية والبساطة والبراءة والرغبة الحارة باللهو والمرح والفرح بعيداً عن «مصاعب الحياة وهمومها». واللافت أن الطفولة لدى الكثيرين تمتد ممتزجة أو عابرة مرحلة الفتوة والشباب، ولدى البعض تستمر حتى الكهولة والشيخوخة وإلى النفس الأخير، ومن هؤلاء الأطفال الكبار أحد أترابي الفنان والكاتب المسرحي محمد وليد مارديني الذي شاركته دنيا الطفولة على سفح قاسيون وبساتين الصالحية ونهر يزيد والمدرسة الابتدائية والتجهيز الأولى ومعهد العلوم والآداب... و«تعلمت» معه التدخين ونحن طلاب في الصف الخامس الابتدائي... فوالده رقيب بالدرك يعمل قريباً من الحدود السورية الأردنية حيث تهريب الدخان على قدم وساق من منطقة «الرمثا» الأردنية إلى بلدة درعا ومن هناك إلى باقي مناطق سورية ومن مصادرات الدخان كمية تأخذ طريقها إلى بيته لتستقر في أدراج «النملية» في بيت «المونة» ومن أنواعها «البليرز والقطة وستار والفيليب موريس والأردات وثري فايف» ففي غرفة المونة بدأنا نجرب الدخان حتى أدمناه.
و«بلا طول سيرة» كان وليد شعلة من ذكاء وحيوية وذا روح مرحة تجود بكل دعابة وطرافة فتبهج الجميع وتضحكهم، كما كان متفوقاً بمادة اللغة الانكليزية في التجهيز التي كان يدرسها الأستاذ المشهور حفظي عبد الهادي الذي يناديه: «يا محمد ياوليد يا مارديني.. ريد يور ليسن» وبعد أن تركنا التجهيز تابعنا التحصيل الإعدادي في معهد العلوم والآداب بجادة الصالحية ــ عرنوس.. طريق الصالحية وأسراب الطالبات الصبايا تعطر الطريق والأنفاس وتفرح العيون والقلوب!! وفي ذلك الجو تفتحت موهبة الفن.. بل الإبداع الفني عند وليد.. وقد جمعه المعهد مع الفنان المعروف محمود جبر المعيد في المعهد، والأديب نصر الدين البحرة المدرس إلى جانب الأساتذة أنطوان منير ومحمد حيدر ووليد مدفعي ومن هناك اختط طريقه بشكل واع إلى عالم الفن والمسرح والكتابة... ومن طرائفه التي لا تعد ولا تحصى أنه كان يعرف بالتحديد والضبط مواعيد خروج الصانعات «الخادمات» من بيوت «الأكابر» لإلقاء القمامة على جانب الطريق!!..
وأذكر مرة أن والده الصعب الطباع حضر إلى المعهد ليتفقد وضع ابنه، وعند سؤاله المدير حول ذلك أجابه تعال سأريك بالعين المجردة وضع ابنك.. وكنا ساعتها في قاعة الدرس أجلس معه في المقعد الأخير وخلفنا مباشرة الجدار الذي فيه بعض الثقوب وقد لاحظت عيوناً تنظر من خلالها فنبهت وليداً الذي التفت وكعادته ليبدأ فصلاً من الدعابة والسخرية والمزاح مخاطباً من ينظر بعبارات تضحك حتى الصخر، وكانت المفاجأة التي أذهلتنا حين دفع أبوه باب الصف ودخل بقوة ليؤدب ابنه، ونزلت بلمح البصر تحت المقعد خوفاً من أن ينالني بعض الضرب، وبهت المدرس وهو يرى هذا الفصل الدرامي المفاجئ. وكان كل يوم يتحفنا ونحن في الصف قبل دخول الأستاذ بعدد من الفكاهات.. ومرة قال لنا: «اسمعوا آخر نكتة، امبارح بالليل سمعت أمي عم تقول لأبي: زيح ..زك عن وشي، فقهقه أبي وأجابها: صرلك عشرين سنة عم تنامي معاها على مخدة واحدة... ماحلك تعرفيها.. لك هيه صلعتي يا جدبة»؟!
وقد مارس وليد التمثيل على خشبة المسارح ومنها مسرح معهد اللاييك ثم اتجه إلى الكتابة المسرحية فأبدع بتأليف التمثيليات الشعبية المستمدة من واقع حياتنا وأشهرها حلقات صابر وصبرية التي أداها الفنانان القديران تيسير السعدي وصبا المحمودي وبثتها إذاعة الشرق الأدنى «لندن» فشدت ملايين المستمعين في العالم العربي.. وكذلك حلقات بثتها إذاعة دمشق ومنها «اللهم إني صائم» و«وأنا وزوجتي والحاسوب» و«يا رايح كتر ملايح» و«كلمة ونصف» و«شهداء الوطن» وبالمناسبة كان يمتلك روحاً وطنية عرضته للتوقيف مرة في زمن الانفصال ومرة بعده. ومن طريف ما حدث معه، أنه طلب يوماً زيارة الرئيس حافظ الأسد وتمت الموافقة على الزيارة وقال له مدير التشريفات يا أستاذ وليد مدة الزيارة خمس دقائق... ولما مضت الدقائق الخمس شق المدير طرف الباب لينبهه أن الوقت قد انتهى بينما وليد مندمج في حديث مرح وهو جالس إلى جوار الرئيس... فأطل المدير وهو ينظر إلى ساعته لكن وليد تجاهل التنبيه والمنبه، ومضى في حديثه الضاحك فما كان من المدير إلا أن دخل وقال: لقد انتهت الزيارة يا أستاذ... فقال له وليد: طول بالك شوية... والله العظيم صعب كتير أن أترك مثل هالكرسي وأخرج... فضحك الرئيس من قلبه.. وقال للمدير: دعنا قليلاً.
ذلك هو الفنان مبدع تلك الأعمال التي شكلت جزءاً هاماً من الذاكرة الشعبية لدى المستمعين العرب الذين ودعهم ورحل عام 19/5/2000.