تسونامي الهجرة العكسية من «إسرائيل» كمؤشّر على أزمتها الوجودية
تشهد «إسرائيل» موجة غير مسبوقة من الهجرة العكسية ما تزال مستمرّة حتى اليوم بتسارع خاص منذ حرب السابع من أكتوبر 2023 على غزة. حيث يغادرها آلاف المستوطنين متجهين إلى الخارج. وهي ظاهرة لم تعد مجرد مؤشر على أزمة اجتماعية عابرة، بل تحولت إلى تهديد استراتيجي حقيقي للكيان الصهيوني، في ظل تراكم الإخفاقات الأمنية والسياسية والعواقب الاقتصادية، وتراجع المكانة الدولية للكيان الذي يعاني من انفضاح غير مسبوق لجرائمه وتضامنٍ تاريخي غير مسبوق مع الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.
وصف رئيس لجنة الهجرة والاستيعاب في الكنيست، جلعاد كاريف، الهجرة العكسية للمستوطنين بأنها «موجة تسونامي» و«تهديد استراتيجي حقيقي لإسرائيل». وعزا كاريف هذه الأزمة إلى تحركات الحكومة التي فككت المجتمع «الإسرائيلي» قبل الحرب، وإهمال الجبهة الداخلية المدنية خلال العامين الماضيين، مشدداً على أن الحكومة الحالية لا تملك الأولويات المناسبة لمعالجة هذه الظاهرة. ويعتقد كثيرون في «إسرائيل» أن الحكومة «الإسرائيلية» تفتقر إلى خطة منهجية لوقف هذا النزيف البشري أو لتشجيع العودة.
وذكر تقرير أعده مركز الأبحاث والمعلومات في الكنيست «الإسرائيلي» تمهيدًاً لمناقشة في لجنة الهجرة والاستيعاب، أنه في الفترة ما بين 2020 و2024، غادر «إسرائيل» ما يزيد عن 145 ألف و900 «إسرائيلي» أكثر من أولئك الذين عادوا إليها. وتظهر البيانات المنشورة تفاصيل هذه القفزة.
فقبل الحرب الأخير في عام 2022، قفز عدد المغادرين على المدى الطويل إلى 59 ألفاً و400 شخص، بزيادة قدرها 44% عن عام 2021. أما في عام 2023، وهو عام اندلاع الحرب على غزة، فقد ارتفع العدد بشكل سريع إلى 82 ألف و800 مغادر، بزيادة قدرها 39% عن عام 2022.
وفي عام 2024 استمرت زيادة عدد المغادرين، حيث هاجر 79 ألف «إسرائيلي» إلى الخارج بين رأس السنة العبرية العام الماضي ورأس السنة العبرية هذا العام.
أما بالنسبة للهجرة إلى «إسرائيل»، فكانت الصورة باهتة، حيث قدم إليها 31 ألف مهاجر جديد فقط في عام 2024، مقارنة بـ 46 ألفًاً في عام 2023 (بحسب صحيفة القدس العربي). مما وسّع الفجوة بين المغادرين والقادمين إلى مستويات قياسية.
لماذا يغادرون؟
تشير الدراسات والتقارير إلى مجموعة من العوامل المتشابكة التي تدفع «الإسرائيليين» إلى مغادرة فلسطين المحتلة.
ومن بين العوامل الإخفاقات الأمنية وانعدام الشعور بالأمان: فما زالت صدمة هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وما تلاها من حرب استنزاف للكيان، نقطة تحول نفسية كبرى لدى المستوطنين. فقد أدى استمرار الحرب وتصاعد الخسائر البشرية اليومية في صفوف جنود الاحتلال ومستوطنيه، عبر حرب الاستنزاف مع المقاومة في غزة ولبنان واليمن إضافة إلى ما تخلل هذه الفترة من ردود عسكرية غير مسبوقة ومدمرة في عمق الكيان في أعقاب عدوانه على إيران، كلها أدت إلى فقدان الثقة في قدرة كيان الاحتلال على توفير الحماية لمستوطنيه.
ومن بين العوامل الدافعة للهجرة العكسية أيضاً التبعات الاقتصادية وتصاعد تكاليف المعيشة، حيث أدت الحرب إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية الكامنة في «إسرائيل» التي تبيّن أنّها رغم رعاية رأس المال المالي العالمي الفاشي لها، لا تشذّ عن القاعدة العامة القائلة بأنّ رأس المال جبان، ولا بد له أن يهرب عندما لا يستطيع تحمُّل بيئة بهذا المستوى من التزعزع الأمني الذي جلبته «إسرائيل» على نفسها بسبب عدوانيتها المنفلتة. كما أنّ طبيعة «إسرائيل» بوصفها شديدة الارتباط بالمركز الرأسمالي العالمي والأمريكي تحديداً، يعني بأنّ كلّ تراجع اقتصادي في المركز من جرّاء الأزمة الرأسمالية التي دخلت طوراً جديداً بعد العام 2008 بشكل خاص، لا بدّ أن يلقى انعكاسات له في «إسرائيل».
وتشير البيانات إلى أن 54% من المغادرين كانوا من سكان منطقتي تل أبيب والمنطقة الوسطى، وهما المنطقتان الأكثر ارتفاعًاً في تكاليف المعيشة.
كما كان من العوامل المؤثرة التراجع الدولي لمكانة «إسرائيل» وتصاعد الغضب الشعبي العالمي ضدها وما يفرضه من تغييرات حتى في سياسات الدول الغربية تجاهها. فالمشاهد اليومية للمجازر في غزة أدت إلى تصاعد المشاعر المعادية لـ«إسرائيل» حول العالم، وتحولت المقاطعة من نشاط رمزي إلى ظاهرة عالمية تمسّ الاقتصاد والمجالات الأكاديمية والثقافية. هذا الإحساس بالعزلة العالمية، الذي اعترف به حتى رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، يدفع كثيراً من المستوطنين للبحث عن حياة جديدة خارج الكيان.
نزيف العقول والكفاءات
تمثل طبيعة الفئات المهاجرة انتكاسة ديموغرافية للمشروع الصهيوني عامّةً، حيث يغادر الأكثر كفاءة وإنتاجية وخاصة من فئة الشباب، الذين يشكلون نحو 40% من المهاجرين ضمن الفئة العمرية 20-39 سنة، وهي نسبة أعلى من وزنهم الديموغرافي في مجتمع الكيان نفسه (والبالغ 27%).
وتشير الإحصائيات إلى أنّ 54% من المغادرين حاصلون على 13 عاماً من التعليم أو أكثر (مقارنة بـ 44% من عموم المستوطنين)، و26% حاصلون على تعليم أكاديمي كامل. وهذا يعني هروبًاً للعقول والكفاءات العلمية والمهنية التي يحتاجها كيان الاحتلال.
ويضاف إلى ذلك ظاهرة تسمى «هجرة المهاجرين الجدد»، حيث نصف المغادرين تقريبًاً في عام 2022 (قرابة 27,500 شخص) كانوا من «المهاجرين الجدد السابقين»، أي ممذن استقروا في «إسرائيل» في السنوات الماضية ثم قرّروا مغادرتها، مما يعكس فشل سياسات الاستيعاب والاندماج.
تداعيات استراتيجية
هذه الهجرة لها تداعيات عميقة على قدرة «إسرائيل» الاستراتيجية. وعلى رأسها إضعاف الجبهة الداخلية، حيث يؤثر نزوح شرائح مهمة من السكان على «المناعة المجتمعية» لكيان الاحتلال، ويضعف قدرته الاحتياطية في فترات الأزمات، خاصة مع خسارة كفاءات علمية ومهنية وعسكرية وتقنية.
وبحسب المركز الفلسطيني للإعلام، تؤدي هذه الهجرة إلى ما يسمى «تقويض العقد الاجتماعي العسكري» لدولة الاحتلال التي تُعرف عن نفسها أساساً بأنها «شعب في سلاح». حيث إنّ هجرة الشباب -بمن فيهم الضباط والكفاءات التقنية- تهدّد استدامة القدرات القتالية وتكشف هشاشة العقد الاجتماعي القائم على عسكرة المجتمع وربط «المواطنة» بالخدمة العسكرية.
وحتى المجال المدني يتأثر بالتحول في النسيج الاجتماعي الناجم عن الهجرة، حيث قد يؤدي خروج أعداد من المثقفين وممن يوصفون «بالليبراليين» أو غير المتديّنين إلى ترك فراغ يقوّي نفوذ التيارات الأكثر تشدّداً دينيّاً داخل المجتمع «الإسرائيلي»، والذين من المعروف أنّهم أقلّ إنتاجية أيضاً بالمعنى الاقتصادي، عدا عن مشكلة ممانعة الكثير منهم الانخراط في التجنيد والقتال ضمن جيش الاحتلال، مما يغير ميزان القوى الثقافية والسياسية على المدى المتوسط.
مستقبل المشروع الصهيوني على المحك
تُحدث الهجرة العكسية المتسارعة شرخاً وجودياً في المشروع الصهيوني، لا يمكن التغاضي عنه. فهي ليست مجرد هروب من واقع الحرب والاقتصاد، بل هي إذا صحّ التعبير «تصويت بالأقدام» على مستقبل الكيان. فمع استمرار تدهور الأمن وتردي الاقتصاد وتعمق العزلة الدولية، عدا عن استمرار السلوك العدواني «الإسرائيلي» الذي لا يبشّر مستوطنيه سوى بمزيد من الحروب وبالتالي بمزيد من الأخطار، من المتوقع حدوث موجة جديدة من الهجرة بعد الانتخابات «الإسرائيلية» المقبلة، مما يجعل الكيان أمام أحد أكبر التحديات في تاريخه.
ويرى البروفيسور «الإسرائيلي» يوفال ألبشان، بأنّ الشعور السائد بين «الإسرائيليين» يشبه ما كان بعد حرب 1973، فهو «شعور بأنه يجب أن أكون أو أنتهي، سيكون بلدي، أو بلداً لن أستطيع العيش فيه». وفي نظر البروفيسورة كارين ناهون، فإن الانتخابات القادمة في عام 2026 «ستكون قاتلة للغاية، فهي في الواقع ستحدد لدولة إسرائيل ما سيكون عليه حمضها النووي» بحسب تعبيرها. في هذا السياق المصيري، أصبحت الهجرة العكسية أقوى مؤشر على عمق الأزمة التاريخية التي يعاني منها الكيان الأكثر فاشيّة في عالمنا المعاصر.