شراكة استراتيجية متنامية: روسيا والصين تعيدان تشكيل التوازنات العالمية

شراكة استراتيجية متنامية: روسيا والصين تعيدان تشكيل التوازنات العالمية

في ظل التحولات الجيوسياسية العميقة التي يشهدها العالم، برزت الشراكة الاستراتيجية بين روسيا والصين كعنصر محوري في إعادة رسم خرائط القوى الدولية. ومؤخراً، أكد بيان مشترك صادر عن الاجتماع الدوري الثلاثين لرئيسي حكومتي البلدين في بكين في الرابع من تشرين الثاني 2025، عمق هذه العلاقة الاستراتيجية التي بلغت مستويات غير مسبوقة من التعاون الشامل.

تعميق التعاون في كافة المجالات

جاء البيان المشترك ليؤكد التزام موسكو وبكين بـ"تعزيز التعاون في جميع المجالات والرد بشكل مناسب على التحديات الخارجية". ويعكس هذا التصريح نقلة نوعية في الشراكة بين البلدين، التي تقوم على مبادئ "حسن الجوار الأبدي والصداقة والتعاون الاستراتيجي الشامل والمنفعة المتبادلة"، حيث يعتبر كل منهما الآخر "شريكاً ذا أولوية".

ويكتسب هذا التعاون أهمية خاصة في الذكرى الـ80 لانتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، حيث أشار البيان إلى استعداد البلدين لمكافحة تحريف نتائج الحرب وتزييف التاريخ، كونهما من الدول المنتصرة وأعضاء دائمين في مجلس الأمن الدولي.

 

أبعاد التعاون المتعددة

يمتد التعاون الروسي-الصيني ليشمل مجالات متنوعة وحساسة، بدءاً بالدعم المتبادل في القضايا المتعلقة بالسيادة والأمن، حيث أكد البيان دعم الصين لـ"جهود الجانب الروسي لضمان الأمن والاستقرار والتنمية الوطنية"، بينما أعادت روسيا التأكيد على التزامها بمبدأ "الصين الواحدة" ورفضها لأي محاولات لاستقلال تايوان.

وفي المجال الاقتصادي، يشهد التعاون بين البلدين نمواً ملحوظاً مع التركيز على تحسين هيكل التجارة الثنائية، وتعزيز التسويات بالعملات الوطنية، والتوسع في مجالات التجارة الإلكترونية والمنتجات الزراعية. كما تم الاتفاق على إنشاء مجلس خبراء للتعاون في مجال الذكاء الاصطناعي، مما يعكس طموح البلدين للريادة في التكنولوجيا الحديثة.

ويشمل التعاون أيضاً المجالات الحساسة مثل الأنشطة الفضائية، حيث تم الاتفاق على تعميق الاتصالات في هذا المجال ضمن برنامج التعاون الفضائي للفترة 2023-2027، بالإضافة إلى تعزيز التنسيق في المنظمات الدولية لمكافحة تسييس أنشطتها.

 

تحدي الهيمنة الغربية

يشكل هذا التعاون تحدياً مباشراً للنظام العالمي القائم، حيث أكد البيان على ضرورة "تعزيز تشكيل نظام عالمي متعدد الأقطاب أكثر عدالة"، والدفاع عن مبادئ ميثاق الأمم المتحدة كأساس قانوني دولي. كما انتقد البيان مصادرة الأصول السيادية دون موافقة مالكها باعتبارها "انتهاكاً صارخاً للمبدأ الأساسي للمساواة في السيادة بين الدول".

ويظهر هذا الموقف واضحاً في التنسيق الروسي-الصيني في المنظمات المتعددة الأطراف مثل مجموعة "بريكس" ومنظمة شنغهاي للتعاون، حيث يعمل البلدان على تعزيز مكانتهما وبناء تحالفات مع دول الجنوب العالمي لمواجهة الهيمنة الغربية أحادية الجانب.

 

الاعتراف الأمريكي الجديد

ما يميز الواقع الحالي هو التحول في الموقف الأمريكي تجاه هذه الشراكة. فبعد سنوات من المحاولات لعزل روسيا عن الصين عبر العقوبات والضغوط الدبلوماسية، يبدو أن الإدارة الأمريكية بدأت تعترف رسمياً بعدم إمكانية فصل هذين العملاقين عن بعضهما بعضاً. حيث بدأ المسؤولون الأمريكيون في الاعتراف صراحة بعدم إمكانية فصل روسيا والصين عن بعضهما البعض، وهو اعتراف يمثل تحولاً في الخطاب الأمريكي الذي كان يراهن سابقاً على إضعاف هذه العلاقة. وخلال جلسات الاستماع في الكونغرس الأمريكي، أشار العديد من المسؤولين إلى أن العقوبات الغربية المفروضة على روسيا لم تؤد إلى تباعد البلدين، بل دفعتهما نحو تعميق التعاون وخلق آليات بديلة للتجارة والتمويل بعيداً عن النظام المالي الغربي.

ويقر العديد من المحللين الأمريكيين بأن المحاولات السابقة لعزل روسيا دولياً أدت إلى نتائج عكسية، حيث قادت موسكو إلى تكثيف شراكتها مع بكين، مما عزز مكانة الدولتين في النظام الدولي الجديد. ويعتبر هذا التحالف بمثابة تحدي استراتيجي للنظام الليبرالي الذي تقوده الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة.

 

آفاق المستقبل

تشير التطورات الحالية إلى أن الشراكة الروسية-الصينية في طريقها لتصبح أحد المحاور الأساسية في النظام العالمي الجديد. ومع تعميق التعاون في مجالات حساسة كالذكاء الاصطناعي والفضاء والأمن السيبراني، يزداد تأثير هذه الشراكة على التوازنات الدولية.

ومن المرجح أن يستمر هذا التوجه في السنوات القادمة، خاصة مع تطابق رؤى البلدين حول العديد من القضايا الدولية، من القضية الفلسطينية إلى الأزمة الأوكرانية، ورفضهما للتدخل الخارجي في شؤونهما الداخلية.

 

تحديات التوازن

رغم عمق هذه الشراكة، فإنها لا تخلو من التحديات الداخلية. فبينما تسعى روسيا إلى شريك استراتيجي قوي لمواجهة الضغوط الغربية، تحاول الصين الحفاظ على مرونة في سياستها الخارجية وعدم الانجرار إلى مواجهة مباشرة مع الغرب قد تعيق نموها الاقتصادي.

كما أن الاختلافات في البنية الاقتصادية والاجتماعية بين البلدين، بالإضافة إلى التنافس التاريخي في مناطق النفوذ التقليدية، قد تشكل تحديات مستقبلية لهذه الشراكة، رغم التقارب الاستراتيجي الحالي.

 

الخلاصة

تعكس الشراكة الروسية-الصينية المتنامية إعادة ترتيب جوهرية للنظام العالمي، حيث تتحرك القوى نحو تعددية أقطاب تتحدى الهيمنة الغربية التقليدية. والاعتراف الأمريكي الجديد بعدم إمكانية فصل البلدين عن بعضهما البعض يؤكد أن العالم يشهد تحولات عميقة في موازين القوى.

وفي ظل هذه التحولات، يبقى السؤال الأهم حول طبيعة النظام العالمي القادم: هل ستتمكن الشراكة الروسية-الصينية من بناء نظام أكثر عدالة وتوازناً؟ عبر شراكة استراتيجية طويلة الأمد ستستمر في تشكيل ملامح النظام الدولي في العقود القادمة، حيث تبدو روسيا والصين أكثر عزماً من أي وقت مضى على كتابة فصل جديد في تاريخ العلاقات الدولية.