الاقتصاد الموازي لهيئة تحرير الشام: المال السياسي وإعادة تشكيل السلطة في سوريا
في واحدة من أكثر اللحظات دلالة على طبيعة التحولات السورية بعد سقوط النظام، خرج وزير المالية ليعلن تبرعه بعشرة ملايين دولار لحملة “أبشري حوران”.
بدت الخطوة في ظاهرها فعلا تضامنيا، غير أن ضعف السردية الرسمية سرعان ما انكشف، فالأموال لم تصدر عن مسار مالي طبيعي، ولم تكن من مخصصات الموازنة العامة كما حاول الوزير الإيحاء، هنا تظهر المفارقة في السياسة السورية الحالية، فالمال السياسي لم يعد استثناء، بل أصبح القاعدة الجديدة.
بين الموازنة الرسمية والاقتصاد الموازي
تشكل الموازنة العامة أداة الدولة لتنظيم الموارد وتوزيعها، لكن ما جرى في حالة “أبشري حوران” يكشف انهيار هذه الفرضية، فآليات الموازنة السورية لا تسمح بتخصيص مبلغ بعشرة ملايين دولار فجأة، من دون مسار بيروقراطي طويل يتضمن موافقات قانونية وإدارية، والتبرير الرسمي ليس سوى ستار يُخفي حقيقة أبسط، فالمال جاء من خارج الدولة، تحديدا، من خزائن هيئة تحرير الشام.
منذ سنوات، بنت الهيئة اقتصادا موازيا خارج القنوات الرسمية، يقوم على شبكة رجال أعمال مقربين وشركات واجهة تعمل في مجالات المحروقات، الصيرفة، الاتصالات، العقارات، النقل، والمطاحن، وهذا الاقتصاد الموازي مكّن الهيئة من تجاوز القيود المفروضة على مواردها التقليدية (المعابر، الجباية، المساعدات)، وفتح أمامها مجالا للتحكم بمفاصل الاقتصاد المحلي.
فوائض مالية بلا شفافية
الأرقام المتاحة تشير إلى أن إنفاق الهيئة وحكومتها “الإنقاذية” لم يكن يتجاوز 50 مليون دولار سنويا، وبالنظر إلى سوء إدارتها للقطاعات الحيوية (التعليم، الزراعة، الخدمات)، فإن هذا التواضع في الإنفاق سمح بتراكم فوائض نقدية قدرت عند سقوط النظام بما بين 160 و230 مليون دولار، وفق تقديرات مبنية على بيانات المعابر ورسوم الجباية، إلى جانب ذلك، تحقق شركات واجهة مرتبطة بالهيئة أرباحا سنوية بين 70 و90 مليون دولار.
لكن هذه الأرقام، مهما بدت دقيقة، تظل غامضة، فغياب الشفافية في بنية الهيئة يجعل أي تقديرات عرضة للشك، الهيئة لم تقدم يوما موازنة معلنة، ولم تخضع مؤسساتها لأي شكل من أشكال التدقيق المالي، وبالنسبة لها، ما يعتبره الآخرون فسادا من خلال غياب الإفصاح والمساءلة هو ممارسة طبيعية، بل “شرعية” ضمن تصوراتها الدينية والفكرية.
المقارنة مع طالبان
النموذج الاقتصادي للهيئة لا يبتعد كثيرا عن تجارب أخرى لميليشيات تحولت إلى سلطات أمر واقع، ففي أفغانستان، بنت طالبان منظومتها المالية على تجارة الأفيون والضرائب غير الرسمية، ما أتاح لها استقلالا اقتصاديا مكّنها من تمويل أنشطتها العسكرية وتوسيع هيمنتها السياسية بعيدًا عن أي منظومة رسمية.
وفي تجارب أخرى من العالم، سواء في بعض دول أفريقيا أو في العراق بعد 2003، اعتمدت جماعات مسلحة على مزيج من الجبايات والاقتصاد غير النظامي لفرض نفسها كقوى أمر واقع، مستفيدة من الفراغ السياسي وضعف الدولة..
في الحالة السورية، يعيد هذا النموذج إنتاج ذاته بوضوح، فالدولة الرسمية، بوزاراتها ومؤسساتها البيروقراطية، تجد نفسها في مرتبة ثانوية، بينما السيطرة الفعلية على الموارد تظل بيد اقتصاد موازٍ يُدار في الظل، وبهذا الشكل يصبح المال ليس مجرد وسيلة للإنفاق أو إدارة الخدمات، بل أداة سلطة بامتياز، تحدد موازين النفوذ وترسم حدود السياسة.
المال كأداة نفوذ اجتماعي
تبرع وزير المالية في حملة “أبشري حوران” لم يكن مجرد فعل رمزي، بل كان عملية “تبييض سياسي” لأموال الهيئة الخاصة، عبر تمريرها في مشاريع إنسانية تبدو بريئة، لكن ما يبدو إغاثة هو في جوهره استثمار سياسي، يهدف إلى بناء ولاءات جديدة في مناطق لم تكن تقليديا حاضنة للهيئة، مثل درعا، وهنا يصبح المال سلاحا ناعما يوزَّع بغطاء إنساني، لكنه يشتري نفوذا سياسيا واجتماعيا.
هذا الاستخدام للأموال يطرح سؤالا أخلاقيا لا يقل أهمية عن السؤال الاقتصادي، فهل يمكن لهيئة مسلحة أن تستخدم العمل الإغاثي كغطاء لبسط سلطتها؟ وهل يصبح المستفيدون شركاء مضطرين في لعبة سياسية أوسع، لا يملكون حيالها سوى القبول؟
فشل في الاندماج بالدولة
عند وصولها إلى الحكم في دمشق، كان يمكن للهيئة أن تختار مسارا مختلفا، عبر دمج مواردها في الخزينة العامة والموازنة الرسمية، ما كان سيعزز شرعية الدولة الجديدة ويمنح الاقتصاد الوطني قدرا من الاستقرار، لكن بعد تسعة أشهر من هذا الانتقال، لم تُظهر أي نية في ذلك، إنما على العكس واصلت تشغيل منظومتها الاقتصادية في إدلب بالتوازي مع مؤسسات الدولة، وكأنها تحتفظ بخطة بديلة في حال تغيرت الموازين.
هذا الرفض للاندماج يكشف أولوياتها الحقيقية، فهي تريد الحفاظ على السيطرة المباشرة على الموارد، وتجنب أي مساءلة قانونية تفرضها القنوات الرسمية، فالهيئة تعلم أن إدماج أموالها في الخزينة سيجردها من نفوذها المالي، ويضعها تحت رقابة الدولة الوليدة، وهو ما يتناقض مع مصالحها في هذه المرحلة.
الخصخصة وصعود اقتصاد المحاسيب
في غياب موازنة شفافة، ومع استمرار سيطرة رجال الهيئة على القطاعات الحيوية، يتشكل اقتصاد جديد يقوم على الخصخصة شبه الكاملة، والخدمات التي يفترض أن تكون عامة من التعليم إلى الصحة والزراعة باتت تحت سيطرة محاسيب الهيئة، وهذا التحول لا يضر فقط بقدرة الدولة على توفير خدمات عادلة، بل يرسخ نظامًا زبائنيا حيث يحصل المواطن على الخدمة بقدر قربه من دوائر النفوذ.
هكذا يصبح الاقتصاد أداة لإعادة إنتاج السلطة السياسية، فمن يملك السيطرة على المال يملك القدرة على توزيع الفرص، وبالتالي يملك الولاءات.
المعضلة أمام إعادة الإعمار
الاقتصاد المزدوج الذي تديره الهيئة يطرح معضلة كبرى أمام أي مشروع لإعادة الإعمار، فمن دون دمج الموارد في دورة مالية رسمية، ستظل البلاد أسيرة ازدواجية بين اقتصاد شفاف محدود، واقتصاد موازٍ غامض يستخدم لشراء الولاءات، وهذه الازدواجية تقوض أي إمكانية لبناء تنمية عادلة أو إدارة موارد وطنية متوازنة.
التجارب المقارنة تشير إلى أن بقاء هذا النموذج سيؤدي إلى تكريس عدم الاستقرار، ففي أفغانستان، جعل اقتصاد طالبان الدولة الجديدة رهينة لاقتصاد الأفيون، وفي سوريا، يبدو المستقبل مرشحًا لتكرار هذه الدائرة المفرغة.
دولة معلنة ودولة خفية
قصة “أبشري حوران” ليست مجرد حادثة عابرة، إنها مرآة تكشف طبيعة الدولة التي تتشكل اليوم، فهناك دولة معلنة بوزاراتها وبياناتها الرسمية، ودولة خفية بمواردها وشبكاتها الاقتصادية، وما لم تُحسم العلاقة بين الاثنين، سيظل المال السياسي هو المحرك الفعلي للسلطة.
السؤال المفتوح أمام السوريين والمجتمع الدولي: هل يمكن تفكيك هذا النموذج المزدوج؟ وهل يمكن بناء دولة ذات شفافية مالية تخضع فيها كل الموارد لرقابة عامة؟ أم أن سوريا ستسير على خطى لبنان وأفغانستان، حيث تتعايش الدولة الرسمية مع اقتصاد ظل يحكم فعليا؟
في الإجابة عن هذا السؤال، يكمن مستقبل سوريا السياسي والاقتصادي معا. فبقدر ما يُحسم أمر المال السياسي، يُحسم شكل الدولة التي ستقوم على أنقاض الحرب.