الصين تُعيد رسم معادلات القوة: عرض سبتمبر 2025
معتز منصور معتز منصور

الصين تُعيد رسم معادلات القوة: عرض سبتمبر 2025

تَوجهت أنظار العالم نحو بكين في الثالث من سبتمبر 2025، مع احتفال الصين بالذكرى الثمانين للانتصار في الحرب العالمية الثانية. الصين لا تقوم بتقديم عروض عسكرية ضخمة بشكل دوري، بل وفق استراتيجية واضحة، يُختار لها التوقيت والمضمون بعناية. وهذا ما يجعل العرض العسكري لعام 2025 حدثاً استثنائياً، لا من حيث الحجم فقط، بل من حيث الرسائل التي يحملها — في التوقيت، وفي الترسانة، وفي الحضور.

قوة لا يُستهان بها

 

شارك في العرض أكثر من 12 ألف جندي من الجيش الشعبي للتحرير، في واحد من أكبر التجمعات العسكرية في تاريخ الصين الحديث. كما تم عرض نحو 500 قطعة عسكرية، من بينها أحدث ما توصلت إليه الصناعة الدفاعية الصينية. وكان اللافت تركيز العرض على الثالوث النووي، مع استعراض صاروخ DF-61  (رياح الشرق 61)، الصاروخ البالستي العابر للقارات القابل للانطلاق من منصات متحركة، والمزوّد برؤوس متعددة. إلى جانبه، ظهر DF-5C ، النسخة المطورة من سلسلة الصواريخ العابرة للقارات، والذي يتميز بمدى يتجاوز 20 ألف كيلومتر وقدرة على حمل 12 رأساً نووياً.

لكن الأهم كان التركيز الواضح على الصواريخ فرط الصوتية، وخاصة DF-17 ، التي باتت رمزاً للتقدّم التكنولوجي الصيني. كما تم عرض سلسلة صواريخ YJ (هجوم النسر)، ومنها YJ-15 الجديد، إضافة إلى YJ-21 المعروف بـ«قاتل حاملات الطائرات»، والذي تصل سرعته إلى 6 أضعاف سرعة الصوت، ويُمكن إطلاقه من البحر أو الجو، ويتمتع بقدرة عالية على المناورة. هذه الأسلحة ليست مجرد أدوات دفاعية، بل وسيلة لتعطيل القدرة الضاربة للقوة البحرية الأمريكية في المحيط الهادئ، خصوصاً في بحر الصين الجنوبي في حال حدث التصادم المباشر بينهما.

ولم تقتصر المفاجآت على الصواريخ. فقد عُرض للمرة الأولى سلاح الليزر النشط، بنسختين: واحدة بحرية وأخرى برية، مصمم لاعتراض الطائرات المسيرة الانتحارية بتكلفة تشغيل ضئيلة مقارنة بالأنظمة التقليدية. كما ظهرت الغواصة غير المأهولة HSU-100 ، بطول 20 متراً، قادرة على البقاء 8 أيام دون تزود، وقاذفة لأنواع متعددة من الصواريخ. إلى جانبها، مسيرات شبحية، ومروحيات مُسيرة، وكلاب آلية تُستخدم في المهام القتالية — كلها تُشير إلى تقدّم صيني متسارع في مجال الذكاء الاصطناعي والأنظمة المستقلة.

أما في مجال الطيران، فقد عرضت الصين طائرات تُنافس أحدث المقاتلات الغربية من حيث الأداء، وبتكلفة أقل. ومن أبرز ما ظهر: المقاتلات J-15T وJ-15DT المخصصة للعمل على حاملات الطائرات، إضافة إلى الطائرة الشبحية  J-35A، التي تمثل خطوة متقدمة في قدرة الصين على شن عمليات جوية متقدمة في بيئة معادية.

 

التوقيت والحضور: دبلوماسية القوة

 

لم يكن اختيار التوقيت عبثاً. فبالإضافة إلى الذكرى التاريخية، تزامن العرض مع انعقاد قمة شنغهاي للتعاون، ما أعطى الحدث بُعداً جيوسياسياً أوسع. وشهد الحدث حضوراً لافتاً من قادة دول إقليمية وعالمية، أبرزهم الرئيسان الروسي والكوري الشمالي، إلى جانب الرئيس الإيراني وعدد من رؤساء دول آسيا الوسطى.

رد فعل دونالد ترامب، الذي ادّعى أن الحضور «يتآمر على أمريكا»، يعكس قلقاً غربياً حقيقياً من التقارب الاستراتيجي بين هذه القوى. لكن الصين أوضحت أن علاقاتها تقوم على الاحترام المتبادل، وأن عرضها العسكري ليس تهديداً لأحد، بل تأكيد على دورها التاريخي في مقاومة الفاشية، وعلى حقها في الدفاع عن سيادتها. إنها رسالة واضحة: لا يمكن تجاهل الصين، ولا يمكن تجاوزها في أي حسابات استراتيجية مقبلة.

 

التكنولوجيا والتصنيع: جوهر التفوق

 

ربما يكون أخطر ما في العرض القاعدة الصناعية التي تُنتج هذه الترسانة. فبينما تخصص الولايات المتحدة أكثر من 800 مليار دولار سنوياً للدفاع، لا تتجاوز الميزانية الصينية 200 مليار دولار. ومع ذلك، تحقق الصين قفزات نوعية في التصنيع العسكري، لا في الجودة فحسب، بل في الكثافة الإنتاجية والسرعة.

السر يكمن في امتلاك الصين لقاعدة صناعية شاملة، وإمكانات هائلة في مجال المعادن النادرة، التي تُعدّ عنصراً حيوياً في التكنولوجيا الحديثة. إلى جانب ذلك، يتمتع البلد باستقرار اجتماعي وسياسي، في وقت تعاني فيه القوى الغربية من تصدعات داخلية، وأزمات حكم وانقسامات مجتمعية.

هذا التفوق التصنيعي ليس مجرد ميزة عسكرية، بل أداة تحوّل جيوسياسية. فبينما تُنفق واشنطن أموالاً طائلة لصيانة هيمنتها، تبني الصين قدرات تُمكنها من تشكيل نظام عالمي جديد لا يُدار من واشنطن وحدها، بل تُشارك فيه القوى الصاعدة.

 

عالم ما بعد الأحادية

 

العرض العسكري الصيني في سبتمبر 2025 لم يكن مجرد عرض للأسلحة. كان إعلاناً رمزياً وواقعياً بأن عصر الهيمنة الأحادية قد تجاوز ذروته. الصين، بتحالفاتها، وبصناعتها، وبقوتها الرادعة، تُثبت أن التوازن العالمي يتغير بوتيرة ثابتة وواثقة.

الصين لا تقول «نحن الأقوى»، بل تُظهر أن الطريق مفتوح للتعاون والتكامل.