معنى الخط البياني المنحدر للشروط «الإسرائيلية»؟
تسمح القراءة المتأنية لتحول وتغير الشروط التي يطلقها «الإسرائيلي» لوقف عدوانه على لبنان، سواء منها تلك المعلنة أو التي يجري تسريبها تباعاً ضمن «مسودات» مزعومة لوقف إطلاق النار، بفهم الخط البياني الفعلي لسير المعركة، بعيداً عن العنتريات والعنجهية الصهيونية المعتادة.
يمكن التأريخ للموجة الجديدة من العدوان على لبنان والمستمرة حتى اليوم، ابتداءً من هجوم البيجر يوم الثلاثاء 17 أيلول. ويمكن تأريخها ابتداءً من هجمات سلاح الجو «الإسرائيلي» واسعة النطاق على بيروت يوم 23 أيلول. ويمكن أيضاً تأريخها من بداية الهجوم البري يوم 30 أيلول (والأصح القول محاولات الهجوم البري لأن جيش الكيان حتى اللحظة عاجز عن تحقيق أي تقدم ملموس في جنوب لبنان).
وأياً يكن التاريخ المعتمد لبداية موجة العدوان الجديدة، فنحن نتحدث عن مدة زمنية لم تتجاوز الشهرين بعد، كانت متخمةً بالأحاديث والتسريبات والمسودات المتعلقة بوقف إطلاق النار، سواء منها التي طرحها الأمريكي أو «الإسرائيلي» أو أطراف أخرى.
إذا أردنا مراجعة تحول وتغير المطالب «الإسرائيلية» لإنهاء العدوان، منذ بداية هذه الفترة حتى الآن، يمكننا أن نرصد المراحل الأساسية التالية:
المرحلة الأولى:
هي المرحلة التي تلت مباشرة اغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، وكانت الشروط «الإسرائيلية» خلالها ممثلة بشرطين قاطعين وبسيطين:
- إنهاء حزب الله بشكل كامل، تنظيمياً وسياسياً.
- إعادة المستوطنين «الإسرائيليين» المهجرين من الشمال إلى مستوطناتهم.
المرحلة الثانية:
وهي المرحلة التي جاءت بعد نحو أسبوعين من بداية محاولات الاجتياح البري، والذي تلقى مقاومة هائلة إلى الحد الذي لم تتمكن معه قوات الاحتلال من التقدم أبعد من بضعة أمتار في بعض النقاط المعدودة على الحدود، ودون القدرة على تثبيت وجودها أكثر من ساعات معدودة. في هذه المرحلة أصبحت الشروط على الشكل التالي:
- إبعاد حزب الله إلى ما وراء الليطاني (ما يعني ضمناً ابتلاع الشرط/ الهدف السابق المتمثل بالقضاء على حزب الله عسكرياً وسياسياً باليد «الإسرائيلية»).
- المطالبة بنزع سلاح حزب الله وفقاً للقرار الدولي 1559 (أي النزول من إنهاء حزب الله عسكرياً وسياسياً إلى عسكرياً فقط، وليس باليد «الإسرائيلية» التي عجزت عن ذلك، ولكن باليد «اللبنانية-الدولية»، أي عبر العمل لخلق نزاع داخلي في لبنان وعبر الاستفادة من الضغط الأمريكي والغربي).
- نشر قوات دولية على الحدود السورية اللبنانية لكي «تتأكد من عدم مرور السلاح لحزب الله من إيران عبر سورية» (أي مرة أخرى إيكال المهمة التي عجز الكيان عن تحقيقها لـ«المجتمع الدولي» أي للغرب وللأمريكان).
المرحلة الثالثة:
وهي المرحلة الحالية، أي بعد أكثر من شهر من العجز التام عن أي اقتحام بري، مع تكبد خسائر كبرى مع كل محاولة جديدة، إضافة إلى التصعيد المتدرج الذي يقوم به حزب الله بتوسيع نطاقات استهدافه ونوعيتها ونوعية الأسلحة المستخدمة ضمنها، بما أدى لتهجير إضافي لعشرات الألوف من المستوطنين الصهاينة من الشمال الفلسطيني المحتل. في هذه المرحلة، وخاصة خلال الأيام القليلة الماضية، تركزت «التسريبات الإسرائيلية» عن مسودات وقف إطلاق النار على شرط واحدٍ وحيد:
- أن يضمن الاتفاق لـ«إسرائيل» حرية الحركة الجوية الحربية فوق لبنان لـ«مواصلة استهداف حزب الله»، وحرية حركة برية محدودة في الجنوب اللبناني بعد وقف إطلاق النار!
النتيجة؟
المكان الذي وصلت إليه «الشروط الإسرائيلية» خلال أقل من شهرين، يعني ضمناً أنها تراجعت (على المستوى السياسي المعلن) عن كل أهدافها السابقة المعلنة، وعادت عملياً إلى ما يشبه الوضع قبل بدء حملة العدوان الجديدة على لبنان.
ولكن هذا المنحني البياني للشروط، الواضح في انحداره وتراجعه، ينبغي أن يتم فهمه ضمن ثلاثة إحداثيات معاً:
أولاً: هو تعبير عن صمود المقاومة واقتدارها، وعن عجز الصهيوني ومعه الأمريكي عن فرض شروطه بالقوة العسكرية، وذلك بالرغم من كل العنتريات والصخب والعنجهية الفارغة للصهيوني ولمؤيديه والمعولين عليه من العملاء الواضحين في المنطقة، أو من التافهين ضيقي الأفق المملوئين حقداً أعمى.
ثانياً: لا يعني ذلك بحالٍ من الأحوال التخلي الفعلي عن الأهداف المطروحة، ولكن يعني نقل مركز الثقل في محاولة تنفيذها نحو أدوات وطرق مختلفة، على رأسها محاولات تفجير الداخل اللبناني عبر الألعاب السياسية التي تظهر الصهيوني بوصفه «مستعداً للسلام».
ثالثاً: ربما الإحداثي الأهم بين هذه الإحداثيات، هو أن ما يبدو شكلياً على أنه عملية نزول تدريجي عن الشجرة العالية التي صعدها «الإسرائيلي» بشروطه مع بداية العدوان، هو في الحقيقة تنفيذ حرفي للاستراتيجية الأمريكية الشاملة بالانتقال من الاعتماد على الحروب النقطية وحدها، إلى الاعتماد بشكلٍ أساسي على الفوضى الهجينة الشاملة، التي يتمثل أحد مداخلها بتقليل كثافة النيران مع إطالتها، عملاً بالوصفة التي قال بها جاك سوليفان بما يخص غزة. وهذا ينسجم تماماً مع البروباغاندا الكثيفة التي تصاحب وصول ترامب إلى الرئاسة الأمريكية بوصفه قادماً «لإحلال السلام وإنهاء الحروب»، والحق أنه قادمٌ لاستكمال ما بدأه بايدن، وبالحقيقة ما بدأته السلطة الحقيقية في واشنطن منذ سنوات، ولكن بأدوات أخرى ومع انعطافة جزئية في طريقة العمل، بعد انسداد الأفق أمام طريقة العمل السابقة... (راجع افتتاحية قاسيون العدد 1200: هل ستتغير السياسة الأمريكية؟).