افتتاحية قاسيون 1200: هل ستتغير السياسة الأمريكية؟
تزدهر هذه الأيام بورصة التوقعات الخاصة بالاتجاهات التي ستتخذها السياسة الأمريكية في العهد المقبل لترامب، وضمناً التوقعات الخاصة بما سيجري في منطقتنا وفي بلدنا.
وإذ ينبغي إعادة التأكيد على ما قالته افتتاحية قاسيون الماضية عن «فردتي الحذاء اللتين يلبسهما الشخص نفسه»، فإنه من الضروري إضافة الأفكار التالية:
أولاً: إن الثابت والمؤكد، هو أن المنظومة الأمريكية بمجملها، تعيش أزمة بنيوية خانقة على المستويات المختلفة، بما في ذلك على المستوى الأمريكي الداخلي، مع الارتفاع المتواتر لاحتمالات الانفجار الواسع تحت ضغط جملة من العوامل، على رأسها تراجع الهيمنة العالمية وتراجع الريع/النهب الذي كانت تنتجه، والذي كان يلعب دوراً أساسياً في تخدير وتحييد الشعب الأمريكي عن أي تدخل مباشر في السياسة.
ثانياً: إذا كانت الوصفة التقليدية للرأسمالية في الخروج من أزماتها هي الحرب، فإن انغلاق باب الحرب المباشرة بحكم وجود الأسلحة النووية، قد دفع نحو استخدام الحروب النقطية الموزعة على ساحات عديدة في العالم، والتي من المفترض أن تقوم بمجموعها بالأثر المطلوب من حربٍ كبرى شاملة. وهذا ما اشتغلت عليه النخب الأمريكية خلال العقدين السابقين، وخلال السنوات الأخيرة بشكلٍ أوضح، سواء في أوكرانيا أو فلسطين ولبنان والسودان وليبيا وغيرها من الساحات. ومع ذلك لم تستطع هذه الحروب النقطية بمجموعها، تحقيق الأثر المطلوب؛ فلا هي أوقفت صعود الصاعدين، ولا أخّرت أو أوقفت تراجع المتراجعين... ولذا وجب البحث عن تغيير سريع في التكتيك ضمن الاستراتيجية الشاملة نفسها.
ثالثاً: يتمثل هذا التغيير في نقل مركز ثقل العمل من الحروب النقطية إلى الفوضى الهجينة الشاملة، وضمناً من العمل العسكري إلى الأعمال المركبة المتعددة الجوانب بما فيها الأمنية والاقتصادية والثقافية وإلخ، خاصة مع التطور التكنولوجي الهائل الذي يسمح برؤية ما جرى في لبنان، (وحتى في هجوم أنقرة الأخير)، بوصفه أحد نماذج هذا النوع من الفوضى الهجينة الشاملة، التي ترتكز بالدرجة الأولى إلى تفعيل الفوالق الداخلية بين الدول «المعادية» للأمريكي، وهذه القائمة تشمل معظم دول العالم عملياً، وخاصة بريكس والمتحالفين معها، وكذلك تفعيل الفوالق الداخلية ضمن كل دولة على حدة، وخاصة الفوالق القومية والدينية والطائفية.
رابعاً: ينبغي أيضاً أن يتم الانتباه إلى أن «الانعطافة» التكتيكية في صعود ترامب، تتضمن محاولة للالتفاف على الخسارة الواضحة التي منيت بها محاولة فرض النيوليبرالية، و«قيمها» على المستوى العالمي، وعلى المستوى الداخلي الأمريكي على حد سواء.
خامساً: لا ينبغي إطلاقاً الوقوع في وهم أن ترامب قادم بخطة «سلام»، لا لمنطقتنا ولا للعالم ككل؛ الاستراتيجية ذاتها ستستمر، ما سيختلف هو الأدوات كما أسلفنا، وسيكون مركز الثقل الأساسي هو الفوضى الهجينة الشاملة.
سادساً: ينبغي الاعتراف للنخب الأمريكية، أنها ورغم انقسامها الداخلي على طرق الخروج من أزمتها، إلا أنها أبدت مرونة عالية في التعديل على الاستراتيجية، عبر تمرير ترامب نحو الرئاسة، بما يضمن تأجيل احتمالات التفجير الداخلي في الولايات المتحدة، ولو إلى حين، وبما يضمن أيضاً تمرير عمليات التعديل على الاستراتيجية بأعلى قدر ممكن من السلاسة، تحت غطاء «الجنون الترامبي» ...
أخيراً: في منطقتنا سيجري عمل واضح وحثيث على استخدام الموضوع الكردي لتفجير المنطقة ككل من جديد، وستحرص واشنطن وحلفاؤها وأتباعها على فعل كل ما يمكن فعله لمنع تسويتين شديدتي الأهمية في منطقتنا؛ التسوية بين السلطة التركية والكرد في تركيا ممثلين بعبد الله أوجلان، والتسوية بين سورية وتركيا برعاية أستانا بما يمنع تفجير الشمال الغربي أمريكياً، وبما يفتح الطريق بشكلٍ موازٍ نحو حلٍ سياسي شامل في سورية على أساس القرار 2254...
الأكيد في المسألة كلها، أن الأمريكي ومعه الصهيوني سيقومان ببعض التغيرات الجزئية هنا وهناك في خطط عملهم، والأكيد أيضاً، أن الضربات التي توجهها المقاومة ستزداد قوة وأهمية، وأن عملية ولادة العالم الجديد ستدخل في طور أكثر تسارعاً، وأننا نشهد منذ اليوم، عملية تاريخية فريدة يجري خلالها انهيار أقصر الإمبراطوريات عمراً في التاريخ، الإمبراطورية الأمريكية، عن عمرٍ لم يناهز 35 عاماً بعد...!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1200