بين هلوسات «الشرق الأوسط الجديد» وحقائق «غرب آسيا»!
يستمر نتنياهو في إطلاق تصريحاته حول «شرق أوسط جديد» يدعي أنه يعمل على «بنائه»، ممثلاً لـ«محور النعمة» أو «محور الخير»، أي المحور الغربي، وعلى وجه الخصوص الصهيوني الأنغلوساكسوني، بمواجهة «محور الشر» والذي يضع على رأسه إيران وقوى المقاومة في منطقتنا، ولكنه يمتد فعلياً إلى الصين وروسيا وكل القوى حول العالم التي تتحدى هيمنة النخبة المالية العالمية.
نتنياهو محقٌ تماماً في شيء واحد ضمن طرحه المتكرر هذا؛ وهو أن «الشرق الأوسط» بشكله الحالي، بطبيعة القوى المهيمنة فيه حالياً، وبطبيعة تركيبته الجيوسياسية، لم يعد قابلاً للحياة وللاستمرار، وهو مقبل بالضرورة على تحولات ضخمة، أسوة بما سيجري في العالم بأسره، ضمن حقبة أوسع مدىً من التحولات التكتونية في النظام العالمي بأسره.
وإنْ كان نتنياهو محقاً في هذا الأمر؛ أي في كون منطقتنا ومعها العالم بأسره، مقبلةً (وبالأحرى مضت عدة خطوات) نحو تحولات كبرى، فإنه مخطئ تماماً في اعتقاده أو ادعائه بأنه وفريقه من النخبة العالمية، هم من سيحددون الخارطة السياسية الجديدة لـ«الشرق الأوسط»... مخطئ إلى الحد الذي يمثل فيه كلامه ضرباً من أضراب الهلوسة المقترنة بحالة إنكارٍ عنيدة للواقع حد الانفصال عنه... لماذا؟
فلنتذكر أن خرائط الشرق الأوسط «القديم»، أي الذي ما زلنا نعيش فيه حتى اللحظة، بالمعنى السياسي والاقتصادي والثقافي، قد تم رسمها ابتداءً من سايكس بيكو بالدرجة الأولى.
هذا التذكير مهم ومحوري لأنه يكشف عن حقيقة بسيطة وواضحة يحاول نتنياهو، (ومعه المعولون على الأمريكي والصهيوني في منطقتنا، بمن فيهم سوريون من أبناء جلدتنا موزعين على الضفاف السياسية المختلفة)، القفز فوقها وإغماض العين عنها.
الحقيقة البسيطة والواضحة هذه تقول التالي: استطاع البريطانيون والفرنسيون رسم المنطقة عبر سايكس بيكو، وبعدها عبر إقامة الكيان الصهيوني في المنطقة، ومن ثم ورثت الولايات المتحدة الأمريكية ذلك كله، بالضبط لأن هذه القوى كانت المنتصر النهائي في محصلة الحربين العالميتين الأولى والثانية، وأنشأت هذا «الشرق الأوسط القديم» على جثة «الرجل المريض العثماني» وعلى جثة القوى والتركيبات السياسية في منطقتنا التي جرى تحطيمها حتى قبل أن تتبلور.
بكلامٍ آخر، فإن المعني (من وجهة نظر التاريخ)، بوضع الأساس لمستقبل منطقة ما، إضافة إلى كتابة تاريخها، هو المنتصر في المعركة، هو القوى الصاعدة والمتقدمة بالمعنى التاريخي، وليس قطعاً القوى المتراجعة والمنحدرة.
نتنياهو ومعه الأمريكان، يمثل في هذه المعادلة التاريخية الطرف المتراجع، الهابط، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وثقافياً، ويمثل الطرف المحكوم بالهزيمة الشاملة وضمن الأفق المنظور والمتوسط، ولذا فهذا الطرف لن يقرر ما هو «الشرق الأوسط الجديد»، ولن تكون له أي كلمة في هذا الشأن، وأكثر من ذلك فإنه بالضبط الطرف الذي على جثته سيتم بناء «الشرق الأوسط الجديد»، الذي ينبغي أن يعود لحمل اسمه الطبيعي من وجهة نظر الجغرافيا السياسية أي «غرب آسيا» بعيداً عن التوصيف الاستعماري الأورومركزي الذي يرى أوروبا الغربية قلب العالم ومركزه ويصنف ويسمى بقية أجزاء العالم على هذا الأساس...
بكلمة، فإن أماني نتنياهو حول «شرق أوسط جديد» مبني على تفجير المنطقة بأسرها عبر تناقضاتها الداخلية وخاصة القومية والدينية والطائفية، مع تسيد الصهاينة عليها، هي مزيج من هلوسات حالة الإنكار المرضية من جهة، ومن سكرات موت المشروع القديم المتجدد المتمثل بالهيمنة الغربية كعنوان عريض، والهيمنة الصهيونية ضمناً كمركز لهذا المشروع...
وإذا كان من كلمة إضافية يمكن قولها، فهي أن أولئك المراهنين على هذا المشروع من أبناء جلدتنا يستحقون منا أن ندعو لهم بأن تنطبق عليهم الآية: «فأغشيناهم فهم لا يبصرون» لعل وعسى ندخل المرحلة السياسية الجديدة وقد تخلصنا من أدرانهم مرةً واحدةً وإلى الأبد...