نتنياهو... مركزاً وهمياً للحدث!
يلعب بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء «الإسرائيلي» اليميني المتطرف، دوراً أساسياً في مجمل المعركة الجارية في فلسطين ولبنان وفي منطقتنا، هذا أمرٌ لا يمكن إنكاره. مع ذلك، فإن هنالك مبالغات إعلامية وسياسية تصور نتنياهو بوصفه مركز الحدث والممسك والمتحكم بخيوطه الأساسية؛ فوفقاً لما يقوله الإعلام الغربي، والأمريكي خاصة، يبدو المشهد كما لو أن كلاً من بايدن وهاريس وترامب، إنما يسعون لنيل رضاه.
ويبدو أيضاً أن السياسة الخارجية الأمريكية بمجملها، تقع تحت ضغط نتنياهو وجماعته الذين يتحكمون بنشاطاتها ومخرجاتها النهائية، وتبدو واشنطن نفسها محكومة من تل أبيب. وأكثر من ذلك، يقدم لنا الإعلام ومحللوه صورة يبدو فيها نتنياهو ساعياً إلى جر الولايات المتحدة نحو حربٍ مباشرة كبرى لا تريدها، وأنها عاجزة تقريباً عن ضبط تصرفات نتنياهو وحكومته وجيشه.
قبول هذه الصورة الكاريكاتورية والتعاطي معها على أنها أمرٌ واقع، من شأنه أن يخلق تشويشاً هائلاً على حقيقة الأمور، ومن شأنه تالياً أن يضيع البوصلة ويفسح المجال ليس فقط لتحليلات خاطئة، بل ولسلوك سياسي خاطئ.
جوهر الأمر يتخلص في النقاط التالية:
أولاً: اعتبار بايدن أو ترامب أو هاريس تكثيفاً للسلطة الأمريكية، هو نقطة انطلاق خاطئة بالضرورة؛ فهؤلاء موظفون كبار، ولكنهم ليسوا السلطة الحقيقية التي يكثفها مالكو البنك الفيدرالي ومعهم صفوة الصفوة من كبار المتحكمين بالأسواق (ضمناً أسواق المخدرات والإتجار بالبشر والأدوية والأسمدة وإلخ) والمجمع الصناعي العسكري. نتنياهو هو الآخر، موظف كبير لدى الجهة نفسها، ولذا لا معنى تقريباً للمفاضلة بين هذا الموظف أو ذاك، ما دام مجلس الإدارة العليا هو نفسه. وما يعني أيضاً أن ما يظهر من خلافات وانقسامات وتناقضات بينهم، وإنْ كانت لها أسس واقعية إلى هذا الحد أو ذاك، إلا أنها تعبر عن شيئين معاً، ولا شيء ثالث: أولاً، هي لعب ضمن الهوامش المتاحة من الإدارة العليا، وثانياً، هي توزيع للأدوار.
ثانياً: تضخيم دور نتنياهو له خمس غايات أساسية:
- تقديم «إسرائيل» كقوة مستقلة ذات سيادة، وهو أمر شديد الأهمية كجزء من محاولات صيانة صورتها المتداعية على كل الصعد، وخاصة داخلياً.
- محاولة تبرئة الولايات المتحدة من الجرائم الكبرى التي يرتكبها الكيان، بما في ذلك الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، عبر نسبها جميعها إلى نتنياهو وحكومته والمتطرفين ضمنها.
- عبر نسب الإجرام إلى نتنياهو وحكومته المتطرفة، تجري محاولة تبرئة «إسرائيل» نفسها من الجريمة، بالقول إن هذه الحكومة بالذات هي المسؤولة، وبذهابها -الذي سيجري عاجلاً أم آجلاً- تتم تبرئة «إسرائيل» ككل من الجريمة.
- وأيضاً، عبر نسب المشكلة بأكملها إلى نتنياهو وحكومته، تجري محاولة تصوير الأزمة البنيوية والوجودية التي يعيشها الكيان، بوصفها أزمة سياسية مؤقتة، يجري حلها بمجرد تغير الحكومة القائمة.
- يحاول ما أسميناه «مجلس الإدارة العليا»، الحفاظ على مسافة شكلية بين واشنطن وتل أبيب، بغرض الاستمرار في احتلال موقع «الوسيط» بما يخص القضية الفلسطينية، والذي يعلم تماماً أنه بات مهدداً بشكلٍ كبير ضمن التوازن الدولي الجديد، والذي ستشكل خسارته، وإنْ جزئياً، خطوة كبرى إلى الأمام بالضد من مصلحة الكيان وواشنطن.
ثالثاً: مركزة الحدث حول نتنياهو، لها غرض آخر أبعد من فلسطين؛ فحين يكون نتنياهو مركز الحدث، فإن فلسطين هي مساحة ذلك الحدث، وربما معها لبنان. بالمقابل، فإن فهم الأمور انطلاقاً من خطة العمل الأمريكية الشاملة في المنطقة ككل، يسمح برؤية أكثر موضوعية ودقة لما يجري؛ فتركيز النظر على فلسطين وحدها، مع إبقاء النار مشتعلة فيها ضمن حدود مضبوطة، وظيفته هو التغطية على عملية نشر «الفوضى الهجينة الشاملة» في كل المنطقة، بما في ذلك العمل لتفجير دولٍ أساسية من الداخل، وعلى رأسها مصر والسعودية وتركيا، وذلك في إطار الدفاع الأمريكي عن الهيمنة المتداعية والمتراجعة، وفي إطار المعركة الكونية الشاملة بين عالمٍ قديم يموت، وعالمٍ جديد ما يزال في طور الولادة.
رابعاً: فهم المعركة الجارية كفتيل إشعالٍ أساسي للفوضى الهجينة الشاملة، يرتب مهاماً أوسع وأعمق من فهمها كصراعٍ محدود؛ فالمهمة تتعدى حدود دعم المقاومة سياسياً واقتصادياً وإعلامياً وعسكرياً وإلخ... المهمة تتضمن إضافة إلى كل ذلك، عملاً حثيثاً على نزع فتائل التفجير الداخلي في كل دول المنطقة، اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وإلخ...
في السياق السوري، تبدو المهمة الأساسية الأكثر إلحاحاً، هي استعادة الدور الوظيفي لسورية ضمن المعركة. وهذه طريقها الوحيد هو استعادة وحدة سورية وشعبها وإخراج القوات الأجنبية منها، وهذه بدورها، لا طريق لها إلا الحل السياسي الشامل على أساس القرار 2254، بالتعاون مع أستانا والصين ودول عربية أساسية، وبالضد من الإرادة الغربية و«خطوة مقابل خطوة»، وبالضد من إرادة المتشددين وتجار الحرب من كل الأطراف، المستعدين للمتاجرة بكل القضايا وصولاً لبيعها، خدمة لمصالحهم...