عن «البيجر» والتفوق التقني...
مثّلت تفجيرات «البيجر»، وبعدها اللاسلكي، يومي الثلاثاء والأربعاء الماضيين، ضربة مؤلمة لحزب الله وللشعب اللبناني، ولكل من يناصر القضية الفلسطينية حول العالم، ليس على مستوى الخسائر البشرية من شهداء وجرحى فقط، بل ربما أخطر من ذلك على المستوى النفسي-الإعلامي.
اليومان الماضيان، والضربات واسعة النطاق جغرافياً التي وجهها الحزب للكيان، أثبتت أن ضربات الثلاثاء والأربعاء وبعدها ضربة الضاحية الجنوبية الأخيرة، لم تتمكن من كسر المقاومة أو تغيير مواقفها... (وهو ما ليس بحاجة لإثباتٍ بالنسبة لمن يقرأ المعركة من منظار زمني أوسع من منظار الأحداث الآنية).
مع ذلك، فإن الحملة الإعلامية النفسية المعادية ضد المقاومة، ما تزال في ذروتها تقريباً منذ يوم تفجيرات البيجر. ويبدو أن قوة هذه الحملة وحجم انتشارها الواسع، يلعب دوراً غير قليلٍ في خلخلة الصفوف وبلبلتها، ليس في داخل لبنان أو داخل المقاومة بالمناسبة، بل بين المناصرين للقضية الفلسطينية حول العالم، الذين أصيب قسم منهم بقلقٍ عميقٍ، خاصة إزاء الترويج لموضوع «التفوق التقني الهائل» الذي يمكن «إسرائيل» من الوصول إلى حيث تريد...
حركات التحرر الوطني و«التفوق التقني»
يستند أولئك الذين يهاجمون المقاومة، ويشمتون ويسخرون وإلخ، إلى مقولة يكررونها هذه الأيام، هي أن «إسرائيل» متفوقة تقنياً وتكنولوجياً وعلمياً، وبالمقابل فإن حزب الله وحماس وقوى المقاومة ككل، «متخلفة» وبالتالي فإن المعركة محسومة، وهذا «ما يقوله العلم» و«ما يقوله المنطق»...
والحق أن بيّاعي الكلام هؤلاء (خاصة على وسائل التواصل) هم أبعد ما يكونون عن أي فهم للعلم أو المنطق أو التاريخ... والبرهان البسيط نعرضه في مسألتين أساسيتين يسقطهما هؤلاء من كلامهم المرسل، إما جهلاً أو عمداً:
أولاً: العلوم العسكرية الحديثة تفرق بين الحرب المتناظرة والحرب غير المتناظرة؛ فأما الأولى، فهي الحرب بين جيوش نظامية، بين دول، وهذه تنطبق عليها بكل تأكيد قاعدة أن المتفوق تكنولوجياً هو الأقرب إلى النصر (وليس المنتصر بالضرورة بطبيعة الحال). وأما الثانية، أي الحرب غير المتناظرة، التي تتم بين تنظيمات مسلحة في وجه جيوش نظامية، فلها منطقها الخاص المختلف جذرياً عن الحرب المتناظرة، ولا شك أن للعامل التكنولوجي دوره فيها، ولكنه ليس الدور الحاسم... المسألة الأكثر حسماً في الحروب غير المتناظرة هي «التكاليف» و«البيئة الاجتماعية»؛ فالتنظيمات قادرة على تدفيع الجيوش النظامية تكاليف مهولة تستنزفها تدريجياً وتستنزف معها كامل منظومة «الدولة». وتستطيع هذه التنظيمات مواصلة عملية الاستنزاف بلا سقوفٍ تقريباً ما دامت «البيئة الاجتماعية» لها، تحتضنها بالقدر الكافي... (من هنا يمكن فهم إصرار الكيان على الحرب الإعلامية النفسية كأداة أساسية ضد قوى المقاومة).
ثانياً: دراسة تاريخ حركات التحرر الوطني عبر العالم، من الجزائر إلى فيتنام والهند وكينيا وناميبيا وجنوب إفريقيا وأنغولا وغيرها من الأمثلة، يسمح بالقول إن حركات التحرر الوطني لم تكن في أي يومٍ من الأيام أكثر تطوراً بالمعنى التكنولوجي من الاستعمار، بل كانت دائماً أقل تطوراً بما لا يُقاس من المستعمر... هل كان أبطال الثورة الجزائرية أكثر تطوراً على المستوى التقني من الاستعمار الفرنسي ومن المستوطنين الفرنسيين؟ هل كان نيلسون مانديلا أو غاندي أو كاسترو أكثر تطوراً تقنياً من نظام الفصل العنصري في إفريقيا المدعوم أمريكياً أو من الإمبراطورية البريطانية أو من الطغمة العسكرية الكوبية المدعومة أمريكياً؟ ومع ذلك فإن النتيجة النهائية كانت دائماً خسارة المستعمر واندحاره.
وضع هاتين المسألتين في عين الاعتبار، يسمح بنظرة أكثر موضوعية لما يجري، ويضع الهذر الذي يلقيه الشامتون والحاقدون والأعداء موضعه الصحيح، أي بوصفه ثرثرةً جاهلة حمقاء هدفها إعلامي نفسي لمصلحة العدو، حتى وإنْ حاولت تقديم نفسها بوصفها «عِلماً»...