انسحاب روسيا من اتفاقية الحبوب: مَن أكبر المتضرِّرين؟

انسحاب روسيا من اتفاقية الحبوب: مَن أكبر المتضرِّرين؟

أعلنت موسكو وقفها العمل باتفاقية الحبوب المعروفة باسم «مبادرة البحر الأسود لنقل الحبوب»، التي جرى التوصل إليها بوساطة تركية ورعاية من الأمم المتحدة. ردود فعل غربية غاضبة قابلت الموقف الروسي وحمّلت موسكو مسؤولية ارتفاع أسعار الغذاء و«حرمان ملايين المحتاجين من غذائهم الرئيسي»، فما هو سبب انسحاب روسيا من هذه الاتفاقية؟ وما تبعات ذلك على الدول الفقيرة التي تعتمد في تأمين غذائها على الاستيراد بشكل رئيسي؟

تعد روسيا وأوكرانيا من أبرز الدول المنتجة والمصدِّرة للحبوب، فتشغل روسيا المرتبة الرابعة من حيث الإنتاج والخامسة من حيث التصدير، فيما تشغل أوكرانيا المرتبة الثامنة من حيث الإنتاج والسابعة من حيث التصدير، ومن بين الحبوب المطلوبة عالمياً يتمتع القمح بحصة كبيرة، وأمّنت روسيا وحدها 17% من صادرات القمح العالمية.

تداعيات الحرب والعقوبات

دخول البلدين في صدام عسكري مسلح شكّل صدمةً وقلقاً في أسواق الحبوب، ويمكن فهم هذه المسألة إذا ما تأملنا الأرقام التي تمّ عرضها، لكن ارتفاع الأسعار لا يمكن ردُّه إلى قلق الأسواق من نقص حاصل أو محتمل في الطلب فحسب، فلا شكّ أنّ العلاقة بين العرض والطلب عاملٌ مؤثِّرٌ في هذه المسألة، لكنّ المضاربات في بورصات الحبوب العالمية يمكن أنْ يسهم في زيادة هائلة بالأسعار، وإلى جانب كون تجارة الحبوب - في ظل ارتفاع أسعارها المتوقَّع - تصبح محطَّ اهتمام الكثير من شركات التجارة العالمية، إلّا أنّ عواملَ سياسية أخرى تفعل فعلها ولا يجب إغفالها. فالغرب يسعى منذ اللحظة الأولى لتحميل روسيا منفردةً المسؤوليّة في تقلّبات الأسواق متجاهلاً أثر العقوبات الغربية التي أعاقتْها في كثير من الأحيان عن تأمين جزء مهمّ من الطلب العالمي على الخامات، والمنتجات الزراعية والأسمدة. فالأسباب المعلَنة من جانب موسكو التي أدّتْ لوقفها العمل باتفاقية الحبوب مرتبطةٌ بعدم التزام الطّرف المقابل بتعهّدات كان قدَّمَها عند توقيع الاتفاقية، والتي ترتبط تحديداً بالقيود التي استهدَفتْ بشكلٍ أو آخر حرمان روسيا من التصدير، وبالتالي حرمانَ أسواق العالَم من سلعٍ أساسيّة في وقتٍ حَرِج. فموافقة روسيا على فتح ممرٍّ لعبور شحنات الحبوب الأوكرانية كانَ مشروطاً بإتاحة وصولِ الحبوب والأسمدة والزّيوت الروسية وغيرها مِن السِّلَع الغذائيّة إلى وجهاتها في الأسواق العالمية، فالعقوباتُ الغربيّة عقَّدَتْ وأعاقَت خروجَ هذه الشَّحنات سواء عبر منع شركات التّأمين وخدمات السُّفن من التعامل مع روسيا أو عبر قطع بنوك الأخيرة عن شبكة «سويفت» العالمية المختصّة بإجراء الحوالات المالية وغيرها من الخطوات العدائيّة. وهو ما دفع روسيا في نهاية المطاف إلى الانسحاب من هذه الاتفاقية. فبحسب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: «روسيا لم تتلقَّ حتى الآن أيَّ شيءٍ بموجب هذه الاتفاقيات» ووصفَ الوضع الحاليّ بأنه «لعبةٌ أحاديّة الجانب».

ما سر ّهذا «القلق الغربي»؟

في جانب آخر من المسألة ينبغي فهم ذلك «القلق الغربي» المفاجئ على فقراء العالم! لا يمكن لأحد إنكار أنَّ الدول الغربية رسّخت شكلاً مجحفاً في التبادل التجاري بين دول الشمال الغنيّة، ودول الجنوب الفقيرة، وعملت السياسات الغربية طوال عقود على سحب ثروات هذه الدول وتكديسها في خزائنها. وبالرغم من أنّ القلق من تأمين الحاجات الأساسية في ظلّ الحروب يعتبر قلقاً مشروعاً، لكنّ الموقف الغربي يرتبط بشكل أساسي بتداعيات ذلك على الدول الغربية ذاتها، لا على الدول الآسيوية والأفريقية الفقيرة. فكانت حصة الاتحاد الأوروبي 38% من إجمالي ما تمّ تصديره عبر هذه الاتفاقية! وحصلت دول أخرى مثل الصين وتركيا على حصص كبيرة أيضاً، في الوقت الذي لم تحصل الدول الأفقر إلّا على 2.3% من كامل الصفقة! أي أنَّ الحرص الغربي على بقاء سريان الاتفاق يرتبط بشكل أساسي بسعيه المحموم للسيطرة على أكبر كمية ممكنة من السلع الغذائية، وتحديداً بعد تراجع إسهام الدول الغربية بالإنتاج العالمي، واعتمادها المتزايد على المنتجين الحقيقين في العالم.

رغم أنّ المتضرِّر الأكبر من إلغاء الصفقة سيكون الدول الغربية إلّا أنّ إلغاءها سيسبّب موجةً من الاضطراب في الأسواق وهو ما يفرض على الدول التي تعتمد على واردات الحبوب الخارجية البحث عن مصادر متنوعة للغذاء، وتقدّم مصر مثالاً حيّاً على ذلك، إذْ قالت الحكومة المصرية إنّها لن تتأثّر بإلغاء الاتفاقية، وقامت بالفعل بتنويع مصادِرها وتحديداً من روسيا والهند وعبر استخدام عملاتٍ بديلة عن الدّولار، هذا بالإضافة إلى أنَّ روسيا أعطتْ في كثيرٍ من الحالات أسعاراً تفضيليّة في العقود المباشرة. أيْ أنَّ إمكانيات إيجاد بدائل لا تزال متاحة ويمكن تخفيض الآثار السلبية المترتبة على زيادة الأسعار.