غمامةٌ سوداء تُمطر ناراً فوق كيان الاحتلال!
منذ عدّة شهور، تربّعت مسألة «الإصلاح القضائي» على عرش خطاب حكومة كيان الاحتلال «الإسرائيلي». ودارت المعركة حولها داخل أروقة الحكم لتتحوّل إلى مسألة محوريّة طالتها أصوات الرفض والانتقادات بصورة عالية وشديدة الحدّة.
لم تقتصر ردود الأفعال على الانتقادات، بل ضجّت الشوارع بالاحتجاجات، وتعالى الضّغط على الكيان من كل جانب، بحيث باتت مسألة «الإصلاح القضائي» مجرَّد عنوان بين عناوين عديدة تسمح بفتح أبواب الحديث مشرعةً وبشكل جدّي عن مستقبل الكيان بصورة عامّة، وعن مدى قدرته على الاستمرار في ظلّ ذهابه إلى مواقع أكثر تطرّفاً وإجحافاً بحقّ أصحاب الأرض الفلسطينيين، الذين يواصلون انتفاضتهم بشدّة وبأس لا مثيل لهما.
بدأت القصة عندما أعلنت الحكومة «الإسرائيلية» نيّتها إحالة مشروع القانون الذي يهدف إلى إصلاح النظام القضائيّ إلى برلمان الكيان (الكنيست). هذا المشروع، الذي يهدف -كما تعلن سلطات الاحتلال- إلى تقليص السلطة القضائيّة وتعزيز السلطة التشريعيّة، الأمر الذي أثار جدلاً واسعاً داخل الأوساط السياسيّة والقانونيّة للكيان، ووصلت مفاعيله إلى الشارع الذي شهد احتجاجاتٍ لعشرات الآلاف من المتظاهرين الرّافضين للقانون، والذين أعربوا عن قلقهم حيال القانون الذي «يضعف القضاء ويهدّد الديمقراطيّة» المزعومة في «إسرائيل».
وبينما كانت تضجّ الشوارع بأصوات الرّفض، واصلت المحكمة العليا عملها الذي وصفه البعض بأنه «تجاوزٌ لصلاحيّاتها»، وأصرّ رئيس وزراء الحكومة بنيامين نتنياهو على تغيير النظام القضائيّ معتبراً أنّ القانون الجديد «سيعزّز الشفافيّة والمساءلة في النظام القضائيّ».
وتطوّر الأمر إلى أنْ أقرّ «الكنيست الإسرائيلي» مبدئيّاً هذا القانون المثير للجدل قبل حوالي أسبوع، وضمن سياق تطوّرات الحدث، توجّهَ قادةُ المظاهرات إلى الإدارة الأميركيّة مطالبِين بتدخّلها لمنع تنفيذ القانون، ما أثار توتّراتٍ دوليّة، دفعت الداعم الأكبر للكيان (الولايات المتحدة الأمريكيّة) للتعبير عن قلقها بشأن القانون داعيةً إلى حوار وطنيّ حول القضيّة.
ووفقاً لمعطيات وسائل إعلام الاحتلال، فقد صادق «الكنيست» على بندٍ أساسيّ يحدّ من صلاحيّات المحكمة العليا ضمن القانون الجديد. والبند الذي تمّت المصادقة عليه يرمي لإلغاء إمكانيّة أنْ يفصلَ القضاء في «مدى معقوليّة» قرارات الحكومة. وذلك وسط تبريرات بالقول إنَّ القانون الجديد يرمي لإحداث توازنٍ بين السلطات، عبر تقليص صلاحيّات المحكمة العليا لصالح البرلمان. لكنّ التعديلات لم تعجب الحليف الأبرز لـ «إسرائيل»، حيث أعرب الرئيس الأمريكي جو بايدن عن أمله في أن «تتخلّى» الحكومة عن هذه التعديلات، كما دعا مفوَّض الأمم المتّحدة لحقوق الإنسان، فولكر تورك إلى تعليق التعديل، بينما وصف نتنياهو الدّعوة بأنها «منافية للمنطق»، واعتبر أنّ مجلس حقوق الإنسان التّابع للأمم المتحدة هيئة «غير مُجدِية». فيما يخضع المشروع الآن لمزيد من النقاش ومن الممكن تغيّيره قبل طرحه للتصويت النهائيّ كما تفيد الأنباء.
الدوافع الحقيقيّة
لكن بعيداً عن كلّ ما يسوقه طرفا النزاع داخل سلطات الكيان من حجج ومبررات ودوافع؛ فإنّ ما لا يقوله أصحاب القانون الجديد حول دوافعهم الحقيقيّة لمثل هذه التعديلات، هو أنّ هنالك مشكلةً يعانون منها في ظلّ البنية البرلمانية القائمة حاليّاً؛ البنية التي لا تسمح لهم بفرض ما يريدون على الطرف الآخر، ولذا فهم يحاولون تخفيض صلاحيّات البرلمان، وفتح المجال بشكل واسع للحكومة لكي تكون قادرةً على فرض ما تريد دون «مشاغباتٍ برلمانية» معطِّلة. وعلى المقلب الآخر، فإنّ الحجّة التي يسردُها قادة الاحتجاجات والمظاهرات بكون تعديلات «الإصلاح القضائي» ستضعف القضاء وتهدّد «الديمقراطيّة» هي غطاءٌ لقضيّة أكبر بكثير، فهي إلى جانب كونها تمسّ «قانون الملكية» وهو ما يهدّد بقاء المستثمرين في سوق العقارات «الإسرائيليّ»، فإنها تسمح (من وجهة نظر دعاتها على الأقلّ) بكسر التوازنات داخل الكيان لمصلحة أحد التيّارين المتناقضين ضّد الآخر...
الانقسام الداخليّ يتعمّق
أهمّ ما يشير له هذا الكلام، هو حجم حالة الانقسام الداخلي التي يعاني منها الكيان، والتي بدأت تطفو على السطح خلال السنوات الأخيرة نتيجةً لتعمّقها وتجذُّرها لتغدو اليوم كارثةً تهدِّدُ لا مصلحةَ الكيان واستراتيجيّاته في المنطقة وحسب، بل وجودَه بالكامل. وأوّل من يتحدث عن حالة الانقسام والمخاطر المحدقة بالكيان في هذه الأيّام هي الصحف «الإسرائيليّة» ذاتها؛ فبجولة سريعة على بعضها مثل «هآرتس» وقناة «كان» الرسمية و«يديعوت أحرونوت» وغيرها، سيجد القارئ تحذيرات من «تدهور كبير بالأمن القوميّ» وتحذيرات أخرى من «اغتيالات سياسيّة قد تحدث داخل «إسرائيل» لشدّة الخلافات التي تعصف بها»، وثالثة تؤكّد أنّ «التعاطف العالميّ مع «إسرائيل» في انخفاض»... إلخ.
وفي الحقيقة، يضاف إلى الضّغط الذي تسبّبه حالة الانقسام الداخلي للكيان، ضغوطاتٌ من نوعٍ آخر تفرضُها قوى المقاومة على الأرض وفي الميدان، ونقصد بذلك العمليّات العسكرية والفدائية التي يواصل الشعب الفلسطيني المقاوِم ممارستَها دون كللٍ ولا ملل، ويوماً بعد يوم. فيما يأتي هذا أيضاً بظلّ تغيرات دوليّة عاصفة بالضدّ من مصلحة أمريكا وطفلتها المدلّلة «إسرائيل»، وبظلّ نفورٍ دوليّ من الكيان وسلوكه وصلَ حدّ الطَّرد لوفدِه من قمّة الاتحاد الأفريقي الذي لم تتمّ دعوة الكيان إليه أصلاً في شباط/فبراير من العام الجاري، والذي يمكن تلمُّسُه أيضاً في العديد من القضايا، مثل ارتفاع وتيرة حملات المقاطعة، وردود الفعل على مسألة «الاصلاح القضائيّ» موضوع الحديث في هذه المادّة.
وبالانتقال إلى أحوال الإقليم، فإنَّ ما جرى أيضاً منذ بداية العام 2023 واتجاهاته هي بالضدّ من مصلحة الكيان بالكامل؛ فبعدما كانت «الاتفاقات الإبراهيميّة» الملاذَ الأخير لـ «إسرائيل» وربَّتها أمريكا في المنطقة، ها هي اليوم تتلقّى صفعةً مدويّة بعد توقيع الاتفاق السعوديّ-الإيرانيّ وسيره باتجاه المزيد من التفاهم بين البلدين وإنهاء حالة العداء التي ارتسمت لفترة طويلة. فالـ «الناتو العربي» ولّى واندثر، وربما ولّت معه إلى غير رجعة «اجتماعات النقب» التي توقّفت وجرى تأجيلها لعدّة مرات متتالية ما بين الدول المطبّعة سابقاً، ونقول «سابقاً» لأنَّ احتمال التراجع عن التطبيع هو احتمالٌ واردٌ -على الأقل نظريّاً- بظلّ إحداثيّات اليوم التي تجري رياحُها باتجاهاتٍ لا تشتهيها سفنُ الكيان ومن طبّعوا معه.
الحلّ أقرب من أيّ وقت مضى
ألا يسمح هذا بالقول إنّ الكيان بات مهدَّداً بوجوده بشكله الحالي؟ وأنّ حلّ القضيّة الفلسطينيّة بات قريباً؟ نعم يسمح وبقوّة، لأنّ الكيان يعيش مرحلةَ الذروة بتناقضاته، ولأنّ الظروف الموضوعيّة لحلّ القضيّة باتت أنضجَ من أيّ وقتٍ مضى. ورغم أنّ هذا الحديث أصبحَ حاضراً بشدّة في خطاب عددٍ من القوى السياسيّة والأطراف الدوليّة المؤثِّرة، إلّا أنّه ما زال مستَهجَناً بالنسبة للبعض الذي يعاني من أثر الخيبات والانكسارات التي رافقَت القضيّة منذ بدايتها في العام 1948، لكنّ معطيات العالَم الجديد، الدوليّة منها، والإقليميّة، بما في ذلك أحوال الداخل لدى الكيان، والذي يعاني فوق كلّ ما ذُكِرَ من أزمة ديموغرافيّة كبيرة؛ تفرض عمليّاً عقليّةً جديدة يتجاوز بها أنصار التحرّر الوطني مرارة الهزائم، ويفكّرون بعقليّة الانتصار في زمن انتصارات الشعوب الذي نحياه، والذي يرتسم شيئاً فشيئاً، وخطوةً بعد خطوة ليفتح الطريق واسعاً أمام حقّ جميع شعوب العالم في تقرير مصيرها، وأوّلُها الشعب الفلسطينّي الباسل والحيّ، والذي ينبض بالإصرار والعزيمة بصورةٍ مستمرّة منذ أكثر من سبعة عقود، وحتى اللحظة.