كان شهراً حافلاً بقمم الفشل الغربي بفرض المواقف الاستعمارية
شهد شهر تموز الماضي ثلاث قمم دولية بارزة انعكس فيها اتجاه ثابت ومتصاعد لتراجع قدرة القوى الغربية الاستعمارية على فرض خطابها وتوجهاتها الأنانية على بقية العالَم، وفشلها في انتزاع مواقف إلى جانب قضيّتها في الدفاع عن الفاشية عبر فشلها في محاولة فرض موقفها من الحرب في أوكرانيا على قمتين على الأقل (اجتماع العشرين واجتماع مع دول أمريكا اللاتينية) مما أدى حتى إلى عدم صدور بيان ختامي في حالة اجتماع العشرين.
جرت القمة الثالثة للاتحاد الأوروبي ومجموعة دول أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي في 17 و18 تموز في بروكسل، كما واختتمت قمة العشرين وكان الاتحاد الأوروبي يريد دعوة زيلنسكي، الرئيس الأوكراني، إلى هذه القمة، ثم تراجع الاتحاد عن الدعوة فيما بعد. ورفضت دول أمريكا اللاتينية والكاريبي المجتمعة مطالب الاتحاد الأوروبي بإدانة «العدوان الروسي»، واكتفت بإبداء «القلق العميق إزاء حرب أوكرانيا» دون ذكر روسيا بالاسم. وهي الصياغة التي اعتُمدت بالنتيجة في البيان المذكور، بعد ساعات من النقاش.
خلال شهر تموز الماضي، استبق الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا موعد مناقشة اتفاقية التجارة بين الاتحاد الأوروبي ومنظمة ميركوسور للقارة اللاتينية، بالتأكيد على أنّ المطالب البيئية الإضافية على ميركوسور، بقيادة فرنسا «غير مقبولة» لأنها ستفرض عقوبات على دول هذه المجموعة الأمريكية اللاتينية التي لا تلتزم بالشروط الأوروبية بشأن المناخ، وقد أيدت الأرجنتين موقفه.
وقال سيلسو أموريم، كبير مستشاري الرئيس البرازيلي للسياسة الخارجية، في ندوة عبر الإنترنت أجرتها منظمة «تشاتام هاوس»: «يجب أن تستند الاتفاقية إلى الثقة، وليس على افتراض عدم الثقة...». وفيما يبدو انتقاداً من الرئيس البرازيلي للطريقة المتعجرفة التي اعتادها الغرب بالتعامل مع الدول التي يعتبرها «أدنى» منه، قال لولا: «هذا ليس اقتراح حسن نوايا. إنّ الطريقة التي تم تقديمه بها غير مناسبة على الإطلاق».
ونقلت صحيفة فاينانشال تايمز عن مصادر أوروبية وبرازيلية بأنّ مكانة الاتحاد الأوروبي كشريك تجاري للبرازيل تراجعت من كونه الشريك الأكبر إلى ثالث أكبر شريك. ولاحظت الصحيفة أنّ «بعض مقترحات الاتحاد الأوروبي تفتقر إلى الوزن الاقتصادي» حيث أعلن الاتحاد قائمة بحوالي 100 «مشروع بوابة عالمية»، لكن الكثير منها ما يزال يفتقر إلى التمويل. وهذا الأمر يعكس التراجع المتواصل لهذه الكتل الاقتصادية الغربية التي تعاني اتساعاً متزايداً في الهوّة بين طموحاتها وآمالها من جهة وبين واقع العالم الجديد ذي القوى المنتجة الصاعدة.
صفعة إضافية لمساعي الدفاع عن الفاشية
الاجتماع المذكور تحوّل في آخر يوم له إلى خلاف دبلوماسي بسبب الأزمة الأوكرانية. وعمل السفراء معظم الليل وحتى الصباح للعثور على أبسط نصّ يدين العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. وقال مسؤول في الاتحاد الأوروبي إن المفاوضات توقفت بسبب تحفظات من قبل بعض الدول في أمريكا الوسطى والجنوبية، مثل كوبا وفنزويلا ونيكاراغوا.
وكان الاتحاد الأوروبي المكوّن من 27 دولة يريد أن تركّز القمة على المبادرات الاقتصادية الجديدة وتعاون أوثق لمنع نفوذ الصين المتزايد في المنطقة. في حين وجّه العديد من قادة مجتمع دول أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي المكون من 33 دولة انتقادات للأوروبيين بالاستعمار والعبودية. فقال رالف غونسالفيس رئيس وفد دول أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي: «معظم أوروبا كانت ولا تزال مستفيدة من جانب واحد في علاقة كانت غير متكافئة مع أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي». ويجدر بالذكر بأنّ بلدان ما يسمّى بـ«مثلث الليثيوم»، أي تشيلي والأرجنتين وبوليفيا، تملك حوالي 50% من المخزون العالمي من هذا المورد الاستراتيجي.
وكان الاتحاد الأوروبي يصرّ على تضمين قسم خاص في البيان الختامي يدين الصراع في أوكرانيا، ويطالب بانسحاب كامل وغير مشروط للقوات الروسية، في حين فضلت بلدان أمريكا اللاتينية والكاريبي «التعبير عن قلقها إزاء الصراع في أوكرانيا ودعم الجهود الرامية إلى الوقف الفوري للأعمال القتالية».
ولم يستطع الاتحاد الأوروبي الممثل لدول الاستعمار القديم والحديث أن يخفي وجه استعماريته المتواصلة حتى اليوم، حيث رفض طلب الطرف الأمريكي اللاتيني إدراج قضية التعويضات عن تجارة الرقيق والتي طرحها رئيس وزراء سانت فنسنت وجزر غرينادين، والرئيس الحالي لمجموعة دول أميركا اللاتينية والكاريبي، رالف غونزالفيس، في البيان الختامي، وبدلاً من ذلك اكتفت دول الاتحاد الأوروبي بالصيغة المنافقة التالية في البيان، التي لا تكلّفها أيّ تعويضات مادّية عن نهبها الاستعماري، سوى بعض الحبر على الورق، حيث اعترفت: «بالمعاناة التي لا توصف التي لحقت بالملايين من الرجال والنساء والأطفال نتيجة لتجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي»، وأعربت عن «الشعور بأسف عميق لحدوثها باعتبارها جريمة ضدّ الإنسانية».
مقاومة متزايدة لنهب «التبادل اللامتكافئ»
على خلفية اجتماعات ممثلي دول «ميركوسور» (البرازيل والأرجنتين والأورغواي والباراغواي) مع الطرف الأوروبي وبعد الخلافات بين الاتحاد الأوروبي ومجموعة دول أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي (CELAC) المكونة من 33 دولة، كان لافتاً تصريح رئيس الأرجنتين ألبرتو فيرنانديز حول القمة بأنها كانت مناسبة استثنائية «للحوار حول كيفية بلورة آلية للشراكة تُخرج أميركا اللاتينية من الاعتماد الحصري على الصناعة الاستخراجية. لقد تطلّب الأمر 500 عام، وأقول ذلك مازحاً إلى حدّ ما، لننجح في ذلك».
وقبل القمة شجبت كوبا وفنزويلا علناً الاتحاد الأوروبي «لسلوكه المتلاعب وانعدام الشفافية»، واتهمت الدولتان بروكسل بمحاولة تنظيم أحداث موازية دون دعوة جميع الدول.
التراجع الغربي في النفوذ العالمي ومن ضمنه أمريكا اللاتينية، في مقابل تقدّم القوى الصاعدة وخاصةً الصين، يمكن الاستدلال عليه أيضاً من المعلومة التالية التي أوردتها صحيفة «فاينانشال تايمز»: «خلال زيارة الشهر الماضي، رفعت فون دير لاين تعهّد الاتحاد الأوروبي بتقديم منح وقروض من 6 مليارات إلى 10 مليارات يورو للفترة من 2021 إلى 2027. لكن هذا يتضاءل، إلى جانب 150 مليار يورو المخصصة لإفريقيا بموجب المخطط. أما الصين فإنها قدمت قروضًا لتمويل التنمية بلغ مجموعها 136 مليار دولار لأمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي من 2005 إلى 2022».
اجتماع «العشرين»
بالتوازي كان يختتم اجتماع رؤساء المالية ومحافظي البنوك المركزية لمجموعة العشرين للاقتصادات الرائدة في 18 تموز 2023 في الهند دون توافق في الآراء بسبب الخلافات بشأن الحرب في أوكرانيا أيضاً. وبعد يومين من المحادثات، لم يصدر بيان ختامي، بل أصدرت الهند، بصفتها الدولة المضيفة، «ملخصّاً رئاسياً».
وفي حديثه إلى الصحفيين بعد اختتام الاجتماع في غانديناغار، وهي مدينة في ولاية غوجارات الغربية، قال وزير المالية الهندي إنّ سبب بيان الرئاسة هو «لأننا ما زلنا لا نمتلك لغة مشتركة بشأن حرب روسيا وأوكرانيا».
وقالت رئيسة المؤتمر نيرمالا سيترامان إنّ اللغة التي تصف الحرب مأخوذة مباشرة من إعلان قمة مجموعة العشرين العام الماضي في إندونيسيا، وأوضحت «ليس لدينا التفويض لتغيير ذلك» مضيفة أنّ هذا أمر يتعيّن على القادة أن يقرّروه عندما يجتمعون في العاصمة نيودلهي لحضور القمة الرئيسية لمجموعة العشرين في أيلول المقبل.
ووفقًا للملخّص الرئاسي، اعترضت الصين وروسيا على فقرات تشير إلى الحرب في أوكرانيا. وبذلك يكون قد تكرر شيء مماثل لما حدث في شباط وآذار من العام الجاري عندما استضافت الهند رؤساء مالية ووزراء خارجية مجموعة العشرين، وكانت الاعتراضات من روسيا والصين تعني أنه يتعين على الهند آنذاك إصدار ملخّص رئاسي أيضاً.
ومن بين الأمور التي حاول أعضاء من مجموعة العشرين إثارتها ضد روسيا في القمة، إدانة موقف روسيا من تعليق صفقة الحبوب ومحاولة تحميلها المسؤولية عن ارتفاع أسعار المواد الغذائية ودفع المزيد من الناس إلى الفقر، وذلك في تجاهل من الدول الغربية لحقيقتين أساسيتين بما يخص الصفقة: (1) أنّ الأغلبية العظمى من الحبوب المصدّرة بموجبها استحوذت عليها الدول الغربية الغنية نفسها وتركت فتاتاً لا يزيد عن 2% للدول الفقيرة، (2) وأنّها عرقلت تطبيق الشق المتعلق بالحبوب والأسمدة والمنتوجات الزراعية الروسية مراراً رغم المطالبات المتكررة من روسيا التي سمحت مع ذلك بتمديد الصفقة أكثر من مرّة قبل تعليقها في النهاية.
ويتبيّن لنا امتعاض قوى الغرب الإمبريالية من انخفاض وزنها ونفوذها عالمياً وعدم تمكنها المتكرر من تمرير رغبات أساسية لها في الاجتماعات الدولية، على سبيل المثال، علقت صحيفة واشنطن بوست على نتائج اجتماع العشرين حيث كتبت: «ظهرت علاقات الهند طويلة الأمد مع روسيا، رغم استمرار غزو الكرملين لأوكرانيا، ورغم جهود الولايات المتحدة والدول الحليفة لفرض عقوبات اقتصادية على الاقتصاد الروسي. لم تشارك الهند في جهود معاقبة روسيا، وهي تحافظ على علاقاتها في مجال الطاقة على الرغم من اتفاق مجموعة الدول السبع على سقف أسعار للنفط الروسي».
ورغم محاولات الهند كمضيفة لاجتماع العشرين أن تحثّ الدول المجتمعة على الاهتمام أكثر بأزمات أخرى في العالم مثل الديون التي تثقل الدول الضعيفة وقضايا الفقر ومشكلات الاقتصاد والمناخ، لكن يبدو أنّ الدول الغربية كانت تربط فشل أو نجاح الاجتماع بفشلها أو نجاحها هي بانتزاع بيان ختامي يدين روسيا في الحرب في أوكرانيا، وحتى عندما تطرّقت جانيت يلين، وزيرة الخزانة الأمريكية، عندما كانت في الهند لحضور محادثات المجموعة، إلى مشكلات الاقتصاد العالمي، حاولت حرف البوصلة عن نهب الدولار للعالم وسياسات التدخل الاستعماري والاستعماري الجديد لبلادها والبلدان الأوروبية عبر عقود من الحروب والنهب والإفقار الممنهج لشعوب العالم، وركّزت أمام الصحفيين على ادّعاءات «الملائكية » الأمريكية والغربية مقابل شيطنة روسيا، بقولها «إنهاء الحرب في أوكرانيا هو أولاً وقبل كل شيء واجب أخلاقي، لكنه أيضًا أفضل شيء يمكننا القيام به للاقتصاد العالمي».
هذا ولن تكون القمم الدولية التي حفل بها الشهر الماضي، الأخيرة التي ستتلقى فيها القوى الغربية صفعات تعبر عمّا وصل إليه نضوج العالَم الجديد متعدد الأقطاب، فبعد النتائج والإشارات المهمة التي خرجت عن قمة روسيا والاتحاد الأفريقي، العالَم على موعد مع قمم قادمة يبدو أنها ستعزز هذا التحوّل والاتجاه، مثل قمة "بريكس" في آب وقمة قادة العشرين في أيلول.