تسريحات العمّال الأمريكيين مؤشراً على ركود يزداد سوءاً
وفقاً لقاعدة بيانات CrunchBase حدث «انفجار» في مؤشر «إعلانات تسريح العمال» من الشركات الأمريكية اعتباراً من الربع الثاني من العام الجاري 2022؛ ففي حين كان هذا المؤشر لا يتجاوز 20 إعلان تسريح شهرياً خلال الفترة نفسها من السنة الماضية 2021، ارتفع بشدة هذه السنة بنحو خمسة أضعاف، ليبلغ أكثر من 100 إعلان تسريح شهرياً (أيار لوحده 111 إعلان، وحزيران 110). وهذا مؤشر على أن الشركات الأمريكية «واثقة» ليس فقط بأنّ هناك ركوداً، بل وأنّه سوف يزداد سوءاً في الفترة القادمة، رغم محاولات الإنكار في تصريحات البيت الأبيض والفدرالي الأمريكي.
في البداية يمكن تكوين صورة عامة عن بدء موجة تفاقم البطالة في الولايات المتحدة من المخطط التالي وفق المصدر والشرح المذكورة في المقدمة:
شركة فورد وصناعة السيارات مثالاً
منذ شباط الماضي كان الرئيس التنفيذي لشركة فورد، جيم فارلي، قد أعطى إشارة إلى تسريحات قادمة، بقوله: «بكل تأكيد لدينا الكثير جداً من الأشخاص [الموظفين] في عدة أماكن، لا شك في ذلك». وكانت الأنباء بأواخر شهر تموز/يوليو الماضي هي أنّ شركة فورد تخطط لتسريح نحو 8000 عامل خلال العام الجاري 2022.
بدأت موجة التسريح الجديدة في شركة «فورد» يوم الإثنين 22 آب، بمجموع مسرّحين 3000 عامل (منهم ألفان كانوا مثبتين براتب، وألف عامل بعقود مؤقتة). ويدخل قرار تسريحهم حيّز التنفيذ اعتباراً من الأول من أيلول/سبتمبر من العام الجاري. وبحسب ناطق باسم الشركة، فإنّ جغرافيا العمّال الذين فصلتهم فورد تشمل الولايات المتحدة وكندا والهند، وحتى في ألمانيا، حيث أعلنت فورد سابقاً أنها ستوقف الإنتاج في مصانعها في سارلويس بألمانيا وتشيناي بالهند، مما أثار غضباً هائلاً بين العمال في كلا الموقعين، بما في ذلك (في حالة مصانع فورد في تشيناي بالهند) قيام مجموعات من العمال باحتلال المصانع من دون مشاركة أو تنسيق من جانب نقاباتهم الرسمية.
السبب الذي تعلنه الشركة ويجري تداوله والتركيز عليه هو أنّ الخطوة تأتي في سياق «إعادة هيكلة» استناداً لعامل «تكنولوجي» يتعلق بالتوجه لزيادة إنتاج السيارات الكهربائية في المزيج الإنتاجي، أكثر منه «صعوبات» تمرّ بها الشركة، بحيث تحاول أن تنافس شركات أخرى مثل «تسلا».
وكان ملفتاً للانتباه أنّ المسرّحين هم من العاملين على خط إنتاج السيارات العاملة بالوقود النفطي، وهم من ذوي «الياقات البيضاء» تحديداً؛ وأجور هؤلاء عادةً أعلى من أجور زملائهم من ذوي «الياقات الزرقاء» أي ذوي العمل الأقل مهارة نسبياً أو الذي يكون فيه نسبة الجهد العضلي المباشر أكبر من الجهد الذهني.
ولا يقتصر الأمر على فورد، فهناك شركات أمريكية أخرى في صناعة السيارات وغيرها سرّحت عمالاً هذه السنة مثل شركة ستيلانتيس (المتشكلة من اندماج فيات-كرايسلر مع مجموعة PSA).
ووفقاً لاستطلاع قامت به شركة الخدمات المهنية PwC، قال 50% من المديرين التنفيذيين في الشركات الأمريكية التي شملها الاستطلاع في أوائل أغسطس/آب 2022، إن شركاتهم تقلل عدد الموظفين. كما قال ما يقرب من نصفهم إنهم إما يقومون بتنفيذ عمليات تجميد التوظيف أو إلغاء عروض العمل أو تقليل أو إلغاء المكافآت والعلاوات.
التسريحات في قطاع التكنولوجيا
انتشرت عمليات التسريح الجماعي للعمال بسرعة في صناعة التكنولوجيا والتي كانت ميداناً للمضاربة المحمومة في السنوات الأخيرة. ووفقاً لإحصاء Crunchbase News تم الاستغناء عن 38000 وظيفة على الأقل في قطاع التكنولوجيا، اعتباراً من منتصف أغسطس/آب، بما في ذلك في أكبر عمالقة التكنولوجيا في أمريكا مثل آبل ومايكروسوفت وميتا (الشركة الأم لفيسبوك) وتويتر، بالإضافة إلى مجموعة واسعة من الأنشطة التجارية عبر الإنترنت مثل Carvana وPeloton وWayfair وShopify وNetflix وغيرها. كذلك يتوسع نطاق التسريحات إلى نشاطات التجارة بالتجزئة (مثل متاجر والمارت الشهيرة).
وحتى في شركة غوغل العملاقة أبلغت الإدارة في وحدة الأعمال السحابية التابعة لهذه الشركة موظفيها بأنه إذا لم ترتفع المبيعات والإنتاجية في الربع التالي «ستكون هناك دماء في الشوارع» على حد تعبير الشركة الذي نقله عنها موقع «بزنس إنسايدر» الأمريكي في وقت سابق من شهر آب، في كناية عن «مجزرة» تسريحات محتملة قادمة بحق العمال.
ويستمر انخفاض الأجور الحقيقية للعمال في الولايات المتحدة الأمريكية رغم تزايد عمليات التسريح الجماعي، فالتضخم يتسارع بشكل كبير. وفي يوليو/تموز 2022 انخفض متوسط الدخل الحقيقي في الساعة في الولايات المتحدة بنسبة 3% مقارنة بعام 2021، وفقاً لمكتب إحصاءات العمل الأمريكي.
مخازن «والمارت» مليئة والناس عاجزة عن الشراء
كالعادة في الأزمات الرأسمالية تبزر التنبؤات والقوانين التي اكتشفها ماركس بشكل ساطع، حيث تتراكم على أحد طرفي التناقض الثروة والإنتاج «الفائض» – بمعنى الفائض عن قدرة تسويقه وشرائه – وخاصةً المنتج المعدّ للمستهلكين الأوسع وأغلبهم من العمال، في حين يتراكم بؤسهم وفقرهم على الطرف الآخر من التناقض.
هذا بالضبط ما يحدث مؤخراً مع سلسلة المتاجر والمخازن التابعة لعملاق تجارة التجزئة الأمريكي Walmart حيث قامت هذه الشركة بتسريح 200 من طاقمها في بداية شهر أغسطس/آب، في حين أن مخازنها مليئة بالبضائع، ولكن ضعف القدرة الشرائية والتضخم قلّص كثيراً أعداد الناس القادرين على تحمل تكاليف شرائها.
الأمريكيون يضطرون للتقشف وتقليل التحرك بسياراتهم
أشار محللون إلى أحد المؤشرات على تدهور القدرة الشرائية للأمريكيين، والمتمثل بانخفاض كمية البنزين التي يستهلكونها، حيث انخفضت في شهر يوليو/تموز الماضي 2022 إلى المستوى نفسه تقريباً الذي كانت عليه في الشهر نفسه من العام السابق 2021، وفي حين كان يمكن أن يفسر الانخفاض العام الماضي جزئياً بجائحة كورونا، لا يمكن أن يفسَّر الوباء انخفاض الاستهلاك هذا العام، بل السبب الأساسي ضربة قوية لقدرتهم الشرائية.
ما زالت موجة البطالة في بدايتها
في ظل الأزمة الحالية تكثر مقارنات المحللين الاقتصاديين مع أزمة «الركود العظيم» 2008-2009. ورغم أنّ هناك أسباب كثيرة تشير إلى أنّ هذه الأزمة أعمق وأشمل وقد تكون «أزمة نهائية»، إلا أنّ قوانين عامة ما زالت على ما يبدو تنطبق عليها كما على الأزمة السابقة. حيث هناك علاقة ملحوظة بين الركود وانهيار الأسهم (الخط الأصفر في الشكل أدناه) وبين صعود معدل البطالة (الخط الأزرق).
هذا يعني بأن فترة الانهيار الكبير للبورصات، وهي قادمة لا محالة، اعتباراً من الخريف أو الشتاء وما بعده، سيرافقها ويتبعها موجة تسريحات كبيرة للعمّال، وفي ظل التدهور العام والشامل للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوروبيين المرتبطين بها وبرأس المال المالي المعَولَم، فإنّ هذا ينبئ بالضرورة بانفجارات اجتماعية واضطرابات سياسية كبيرة وواسعة قادمة.