نور أبو فرّاج
email عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
نمتلك كبشر في هذه البقعة من العالم علاقة مُركّبة مع فكرة الأذى تحفّز أسئلة مثل: ما هو الفعل المؤذي أساساً؟ متى تعرّضنا للأذى وممن؟ إلى أية درجة كانت ذواتنا شريكةً بإلحاق الأذى بأنفسنا؟ وثم بعد ذلك: كيف تعاملنا مع هذا الأذى؟ وهذا السؤال بدوره يطرح أسئلة فرعية مثل: هل استطعنا بدايةً تمييز حادثة الأذى؟ هل استطعنا تعريفها والاعتراف بها؟ ومن ثم كيف دافعنا عن أنفسنا وكيف جاء رد فعلنا: هل اخترنا مثلاً إيذاء غيرنا كما لو أننا نمرر كرةً تدور بيننا في حلقةٍ لا نهائية؟ أم أننا نجحنا بالدفاع عن أنفسنا واتخذنا موقفاً أو سلوكاً واضحاً تجاه الشخص/ الجهة التي قامت بأذيتنا. وأخيراً متى نشفى من الأذيّة حقاً أو نتجاوزها؟ خاصة وأنّ كل ما حولنا يُلحقنا بأذيةٍ إثر الأخرى ولا يترك لنا فرصة التقاط أنفاسنا.
رجلٌ يقتل أخاه من أجل خلافٍ على مساحة لرعي الأغنام. وزوجة تتعمد إغراق شقة زوجها بالبنزين وإضرام النار فيه وبزوجته الثانية وأولاده إثر «خلاف عائلي». زوجٌ آخر يقتل زوجته لأنها رفضت الذهاب بصحبة أمه لحضور أحد الأعراس، وهناك أيضاً رجل يقتل عشيقته ويفضل تقطيع جسدها وتوزيعه في حاويات الزبالة ويستقل من أجل إتمام المهمة سيارة تكسي.
تتخيّل أغنية «النملة والصرصور» للأطفال حواراً دار بين النملة المُجتهدة والصرصور الكسول على امتداد فصول السنة. ففي الوقت الذي كان فيه الصرصور يلهو ولا يفعل شيئاً سوى الغناء والسخرية من النملة، كانت هي تجتهد في خزن الطعام وتهيئة منزلها لأيام البرد. وحينما حلّ الشتاء انقلبت الآية وجاء الصرصور البردان والجائع يترجاها طلباً للطعام، لكنها رفضت فتح بابها له وظلت تغني في ركنها الدافئ. تبدو لي أغنية الأطفال هذه أغنية الخريف بامتياز وإن كانت الصلة غير واضحة للوهلة الأولى بين الاثنين، ففصل الخريف ارتبط في تاريخ الإنسان وسائر الكائنات الحيّة الأخرى بمرحلة التهيئة للشتاء وحصاد ما تم زرعه وإنضاجه في الأرض طوال فصلي الربيع والصيف. هو فصل الركون والاستعداد لما سيأتي؛ أو هكذا كان الأمر حينما كانت علاقة الإنسان بالطبيعة علاقة مباشرة دون وساطات، وحينما كان يأكل ما يزرع ويجوع إن لم يبذل جهداً كافياً في العمل.
قبل أسابيع ضجّ الرأي العام الأمريكي بجريمة قتل حصلت في الولايات المتحدة، حينما قام ماثيو تايلور كولين (40 عاماً) بذبح طفليه حتى الموت عبر طعنهما بشكلٍ متكرر، بعد أن غادر بهما من ولاية كاليفورنيا إلى المكسيك، ليعود أدرجه دونهما وهو يحمل آثار دماء على ثيابه وفي سيارته، ما جعل الشرطة تشك في أمره وتلقي القبض عليه.
أمٌّ تُحضّر كأساً من الحليب الساخن، أو تضع مُعقماً على جرحٍ في ركبة طفلها. عائلة تتناول الشوكولا أمام التلفاز. تلك بعضٌ من الإستراتيجيّات التي استخدمها المعلنون تاريخياً لإشعارك بأن الذي تراه على الشاشة شخصٌ مثلك، أو ربما شخصٌ أفضل قليلاً لأنه عرف اختيار نوع الحليب الأفضل لتقديمه لعائلته. لكن أحياناً ما يكون بطل الإعلان نجماً مشهوراً وهنا تكون الوظيفة النفسية للإعلان مختلفة؛ فالبطل هنا جذّاب، جميّل، ناجح، وعادة ما يشعر المستهلكون بهوة سحيقة تفصل بينهم وبينه. لكن هذه الهوة تضيق عن طريق السلعة التي يتم الترويج لها؛ فإن كان هو يشرب الببسي، وأنا أيضاً قادرة على شراء الببسي، ففي المحصلة لدينا أرض مشتركة تجمعنا.
وجّهت الحرب السوريّة ضربة قاصمة للبنية الاجتماعية السورية، وهذا بالطبع أمرٌ لا يخفى على أحد. لكن ما يتم إهمال الحديث عنه أو حتى تغييبه بشكل مقصود هو أن «الأسرة السورية النموذجية» كانت مهددة قبل الحرب بزمنٍ طويل. فالظرف الاقتصادي الاجتماعي والاتجاه نحو سياسات السوق الحر، وما تبع ذلك من قيم وأخلاقيّات بدأ يتم تكريسها قسراً في المجتمع السوري هي التي وجهّت أولى الضربات للأسرة النموذجية.
اختلفت تجارب وخبرات السوريين الذين هاجروا سورية أو غادروها مؤقتاً بدرجة كبيرة باختلاف وجهاتهم وحظوظهم واستعداداتهم، شاهدنا من بعيد السعداء جداً والتعساء جداً وما بينهما. هناك من اشتاق للبلاد ومن لم يصّدق فرصة الخلاص منها، لكن بدا أن هناك ما يشبه الإجماع على أن الخسارة الكبرى بالنسبة لهؤلاء جميعاً مرتبطة بالوسط الاجتماعي، والنسيج الاجتماعي. لذلك يقول الكثيرون مثلاً بأنهم يمتلكون الآن عملاً لائقاً، أو مقعداً في جامعة عريقة أو يكسبون قدراً لا بأس به من المال، لكن هناك شيء ما مفقود، وغالباً ما يكون «الألفة» «الحميمية» و«الجو الاجتماعي».
بعد الصخب والعنف، الذي اتسمت فيه فترة رئاسة دونالد ترامب للولايات المتحدة الأمريكية، وبعد كل تلك الإثارة المصحوبة بأفعال شائنة وغير متوقعة، من رئيس إحدى أكبر دول العالم، الذي تحدث لغة أقرب إلى لغة الشارع من لغة الدبلوماسيين، وكل ما تلا ذلك من سلوكيات عنصرية أو شائنة، كان آخرها الاستعصاء ورفض الخروج من البيت الأبيض، بعد كل ذلك بدت شخصية جو بايدن الرئيس الأمريكي الحالي، من النظرة الأولى أكثر اتزاناً، كما لو أنه بدأ أخيراً يتصّرف تصرفاً يليق برئيس.
تجد وسائل الإعلام كما يبدو غواية في اختيار من تعتبرهم «أضداداً» أو أشخاصاً من تيارات فكرية وسياسية مختلفة، لتضعهم أمام عدسات الكاميرا كي يتفرّج الجمهور عليهم وهم يتشاجرون ويختلفون ويغضبون على الهواء. ورغم الشعبية الظاهرية لهذا النوع من البرامج تبقى قيمتها المعرفية والسياسية موضع شك.
منذ نشأة مفهوم العلاقات العامة بمفهومها المعاصر، تم تكريس قناعة مفادها: أن خبراء وفرق العلاقات العامة قادرون على تحسين صورة أية مؤسسة أو شركة، عبر تنفيذ إستراتيجية محددة تتضمن عدداً من الخطوات والإرشادات التي تنص على (افعل ولا تفعل)، أو بكلمات أخرى؛ سلوكيّات يجب فعلها، وأخرى يجب تجنبّها تماماً. وبالتالي، وبناءً على وجهة النظر هذه، الأمر برمته مُرتبط بالعلاقات العامة ومدى جودتها، أي لا يهم ما هو الوجه الحقيقي للعميل، سواء كان شركة أو رئيساً أو بلداً، بل المهم فقط هو توظيف الأشخاص الأكفاء القادرين على ترقيع ما يمكن ترقيعه وإخفاء ما يمكن إخفاؤه للخروج في النهاية بوجهٍ جديد، مزيّف لكن جذّاب. وتجربة الكيان الصهيوني المؤمن جداً جداً بأهمية العلاقات العامة، وجدواها، تجربة تستحق التأمل في هذا المضمار.