الشبكة الاجتماعية السورية في زمن قوتها أو تمزّقها

الشبكة الاجتماعية السورية في زمن قوتها أو تمزّقها

اختلفت تجارب وخبرات السوريين الذين هاجروا سورية أو غادروها مؤقتاً بدرجة كبيرة باختلاف وجهاتهم وحظوظهم واستعداداتهم، شاهدنا من بعيد السعداء جداً والتعساء جداً وما بينهما. هناك من اشتاق للبلاد ومن لم يصّدق فرصة الخلاص منها، لكن بدا أن هناك ما يشبه الإجماع على أن الخسارة الكبرى بالنسبة لهؤلاء جميعاً مرتبطة بالوسط الاجتماعي، والنسيج الاجتماعي. لذلك يقول الكثيرون مثلاً بأنهم يمتلكون الآن عملاً لائقاً، أو مقعداً في جامعة عريقة أو يكسبون قدراً لا بأس به من المال، لكن هناك شيء ما مفقود، وغالباً ما يكون «الألفة» «الحميمية» و«الجو الاجتماعي».

تقول إحدى الفتيات مثلاً إنها واظبت على تغيير لون وقصّة شعرها؛ تطيله ثم تقصّره ثم تصبغه بالأحمر الصارخ أو الأسود الفاحم لكنها ومهما فعلت ظلّت تحس بأنها غير مرئية، أي بمعنى آخر مُغتربة ووحيدة في مدينة لا تراها. في حين تعاني أم شابة أخرى من معضلة تتعلق بتخوّفها من ترك ابنتها من الصباح حتى المساء في روضة الأطفال بينما تعمل هي، لأن الفتاة الصغيرة لا تمتلك ترف قضاء طفولتها في منزل جداتها وأجدادها التي تفصلها عنهم آلاف الكيلومترات. ويلخص شاب آخر خساراته بالقول: «أشتاق إلى العلاقات الاجتماعية مع أشخاص يعرفونني تماماً، وأشتاق إلى التواصل مع أشخاص كنت قد أسست معهم سابقاً بحيث لا اضطر لشرح نفسي».
كل تلك الآراء تغري المرء بتأمل هذه البنية التي يتحدثون عن توقهم لها، نقاط قوتها ومكامن ضعفها والتغيّرات التي طرأت عليها، وفهم السبب الذي جعلها خسارة حقيقية بالنسبة للذين غادروا بلادهم قسراً، وحرموا من التمتع بدفئها.

العائلة السورية

تشكل العائلة السورية جزءاً أساسياً من النسيج الاجتماعي المفقود، لكن ما هي العائلة السورية حقاً؟ ومما تتألف؟ ومتى نطلق على أسرة ما مصطلح «أسرة سورية نموذجيّة» فالعائلات في الريف لا تشبه تلك التي في المدينة، والعائلات التي تشكّل جزءاً من عشائر لا تشبه التي تتشكل في المدن، كما أن العائلات قد تختلف بقليلٍ أو كثير بين المدن السورية ذاتها. وأخيراً وليس آخراً فالعائلات السورية تختلف أيضاً عبر الزمن، فعائلة نموذجية من الثمانينات تختلف عن عائلة سورية عام 2020. طوال سنوات قّدمت الدراما السورية نماذج من عائلات سورية اعتبرت نموذجية إلى درجة كبيرة، رغم الاختلاف بنية العلاقات ضمن عائلة تعيش في العشوائيات (مسلسل الانتظار مثلاً) مقارنة بعائلة برجوازية من الطبقة الوسطى كما في الفصول الأربعة مثلاً.
للسوريين خبرات مختلفة مع فكرة العائلة نفسها، لكن مع ذلك هناك سمات عامة يمكن ملاحظتها: فالعائلة السورية كانت لوقتٍ طويل مهيمنة على مصائر أعضائها، بالمعنى الإيجابي والسلبي لهذه الكلمة، والمقصود بذلك أن العائلة تلتف حول الأم والأب، وهي عائلة متماسكة إلى درجة كبيرة، وتوزيع الأدوار والواجبات ضمن هذه العائلة واضح ومحدد، كما أن الحياة بين هؤلاء مكشوفة ومختلطة إلى حدٍ بعيد. والعائلة السورية عائلة انفعالية وعاطفية، ونشيطة فيما يتعلق بالواجبات تجاه أعضائها ومشاركتهم الأفراح والأتراح. ولهذا يمتلك مثلاً أبناء الطبقة الوسطى ذكريات مشابهة عن حفلات رأس السنة والأعياد، ويتذكر الأكثر حظاً منهم رحلة سنوية لا تزيد عن عدة أيام للبحر في الصيف، أو رحلات صغيرة أكثر تواضعاً ضمن النطاق الجغرافي لكل محافظة.

الصداقات خيط آخر ضمن النسيج الاجتماعي

إلى جانب العائلة كبنية اجتماعية محددة المعالم، شكلّت الصداقات وزمالات العمل عنصراً أساسياً من الشبكة الاجتماعية السورية، وقد يكون تحليل فكرة الصداقات أكثر تعقيداً لغياب وجود بنية تنظمها. لكن كيف استطاعت شرائح واسعة من السوريين عقد صداقات عميقة وممتعة ومتجددة؟ وما الدور الذي لعبته الصداقات في حياة أفرادها، وكيف تحوّلت إلى إرث أو مكسب حقيقي بالمعنى الاجتماعي؟
ورغم كونها بالطبع ليست حكراً على مجتمع بعينه، لكن تنبغي ملاحظة أن الكثير من الصداقات داخل سورية اتسمت بالحميمية والصدق والدفء وكانت عوناً حقيقياً لأصحابها لمواجهة مصاعب حياتهم، ومنبع هذا الدفء والعمق هو ما يصعب إخضاعه للتحليل أو التفتيت الآن. ربما يكون مرّد الأمر لسمة عامة (لا يمكن تعميمها رغم الشعور بوجودها) ترتبط بكون الشعب السوري شعباً حاراً وبسيطاً وغير متكلّف، قادر على مشاركة أفكاره ومشاكله مع آخرين يثق بهم. كما أن بنية حل المشكلات قائمة بدرجة كبير على جهد جماعي، لأن المجتمع وفق المصطلحات الرتيبة المتعارف عليها مجتمع «متكاتف يساند أفراده بعضهم بعضاً». تلك العبارة رغم صحتها تغفّل «الحب»، فالمساندة لم يكن دافعها الوحيد الواجب، بل الحب أيضاً.

الشبكة بشكلها المشوّه

كي لا تبدو الصورة وردية أكثر من اللازم، لا بد من الاعتراف أيضاً، بأن للشبكة الاجتماعية، مواطن ضعفها، فالخلل الأساسي يمكن اختصاره بفكرة الهيمنة أيضاً، ذلك أن الأسرة وكانت لوقت طويل مهيمنة على مصائر وخيارات أفرادها، في الزواج والعمل والدراسة وحتى أبسط القرارات الشخصية. فجرائم الشرف مثلاً أحد مظاهر التشوّه في البنية الاجتماعية، وكذلك إجبار الفتيات على الزواج المبكّر أو حتى التفكك الأسري والعداوات المرتبطة بخلافات تتعلق بالميراث. لكن وراء كل هذه المظاهر يتخفى طغيّان المستوى الاقتصادي الاجتماعي كعامل مستتر يمارس تأثيره من بعد.
إذ يمكن افتراض أن درجة التشوه في البنية الاجتماعية ارتبطت طردياً مع درجة التهميش والمستوى الاقتصادي الاجتماعي للأسرة. فكلما كانت الأسرة أشد فقراً وأكثر هامشية كان يصعب عليها المحافظة على علاقات «رائقة» و«مثالية» ومحمية من سطوة الضغوط الاقتصادية والمعاشية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1028