الخريف كما يجب أن يكون.. شهر الحصاد والتغيير

الخريف كما يجب أن يكون.. شهر الحصاد والتغيير

تتخيّل أغنية «النملة والصرصور» للأطفال حواراً دار بين النملة المُجتهدة والصرصور الكسول على امتداد فصول السنة. ففي الوقت الذي كان فيه الصرصور يلهو ولا يفعل شيئاً سوى الغناء والسخرية من النملة، كانت هي تجتهد في خزن الطعام وتهيئة منزلها لأيام البرد. وحينما حلّ الشتاء انقلبت الآية وجاء الصرصور البردان والجائع يترجاها طلباً للطعام، لكنها رفضت فتح بابها له وظلت تغني في ركنها الدافئ. تبدو لي أغنية الأطفال هذه أغنية الخريف بامتياز وإن كانت الصلة غير واضحة للوهلة الأولى بين الاثنين، ففصل الخريف ارتبط في تاريخ الإنسان وسائر الكائنات الحيّة الأخرى بمرحلة التهيئة للشتاء وحصاد ما تم زرعه وإنضاجه في الأرض طوال فصلي الربيع والصيف. هو فصل الركون والاستعداد لما سيأتي؛ أو هكذا كان الأمر حينما كانت علاقة الإنسان بالطبيعة علاقة مباشرة دون وساطات، وحينما كان يأكل ما يزرع ويجوع إن لم يبذل جهداً كافياً في العمل.

الرمزيات والمعاني المختلفة لشهر الخريف

رأت الحضارات البشرية المختلفة رمزيّات خاصة في الاعتدال الخريفي على اعتبار أنه فصلٌ يُذكّر البشر بسطوة الطبيعة على حياتهم وبأيديها الخفية التي تلمسهم برفق، حتى حينما يكونون غافلين عنها.
كانت أولى تلك الرمزيّات الاعتراف بالتغيير أو استشعاره عبر مشاهدة دورة حياة الكائنات والنباتات من حولنا. لسببٍ غير معلوم يرى البعض أيضاً أن الخريف يوحي بالغموض ومواجهة أمور مجهولة قادمة لأن تغيّراً ما يحصل، لكن ما يجعل هذا الغموض ممتعاً حقيقة كونه شعوراً مشتركاً بين الناس جميعاً على متن الأرض، فهم جنسٌ، أو فريق واحد في مواجهة الطبيعة التي تلعب هنا دور الخصم أو الطرف الثاني. في حين يعتبر الخريف أيضاً شهر الاستعداد والخزن، فكما يقوم البشر بتحضير مونة الشتاء من الأطعمة وتهيئة منازلهم لتكون أكثر دفئاً للشتاء، تقوم بعض الحيوانات بتحضير مخابئها للسبات الشتوي وتُخزّن ما استطاعت من الطعام. فالحيوانات التي تتغذى على المكسرات تقوم بدفنها وتخزينها في أعشاش أو حتى ضغطها في لحاء الأشجار. أما حيوان الخُلد مثلاً فيخزّن ديدان الأرض الحية، التي تُجمد بفعل عض رؤوسها لفصل الشتاء. أما الديدان التي لا تؤكل خلال الشتاء فتزحف بعيداً عندما ترتفع درجة حرارة الطقس في الربيع، بعد أن نما جزءٌ جديدٌ من رأسها. الخريف يرمز للحماية؛ ففيه تميل الكائنات الحية، وبالأخص البشر إلى حماية نفسها وجسدها، فتبدأ بارتداء طبقات إضافية من الألبسة وتدخل بعض التغيرات على نظامها الغذائي. يقال إن شهر الخريف هو شهر السكينة بامتياز، ومرد الأمر ربما للإيقاع الهادئ لهذا الفصل الذي يتيح للمرء الاستمتاع بحرارة معتدلة الدفء وتهيئة نفسه ومسكنه للأشهر القادمة. في حين ربط الفلاسفة القدماء شهر الخريف بمفهوم التوازن وبرروا ذلك بأن للّيل والنهار في الخريف أطوالاً متساوية، ما يوحي ويعزز هذا الشعور بالاتزان. ويقال أيضاً بأن شهر الخريف يعلّم الناس قبول فكرة التخليّ أو قبول التغيّر؛ موت شيء وولادة آخر. فالتخلي هنا لا يأتي بمعنى الاستسلام أو السلبية وإنما قبول حقائق الحياة ودورتها الدائمة والتفكير بالتغيير الذي سيأتي بعد الركود.

أسطورة بيرسيفون

تعزز الأساطير القديمة خصوصية شهر الخريف وتعتبر أسطورة بيرسيفون اليونانية أشهر الأساطير التي ارتبطت بهذا الفصل. وتحكي الأسطورة بأن الإله هاديس شقيق زيوس إله العالم السفلي، أعجب بالجميلة بيرسيفون ابنة الآلهة دميتر (آلهة الطبيعة والفلاح والخضرة عند الإغريق). وهكذا اختطفها، وحملها معه إلى العالم السفلي، وتزوجها وجعلها ملكته. حداداً على ابنتها، حرمت دميتر الأرض من النبات وتحولت المزارع إلى قفار. ولإرضاء دميتر، اتفق زيوس مع هاديس على إعادة بيرسيفون، لكن هاديس أطعمها قبل ذهابها حبة رمان مسحورة، ما جعلها تعود دائماً لتقضي في العالم السفلي ثلث العام كل سنة. ولهذا، يعود الربيع عند عودتها إلى الأرض، ويحلّ الشتاء عند مغادرتها إلى المملكة السفلية. وغالباً ما يرمز ل بيرسيفون بفتاة جميلة تحمل في يدها حبة رمان، تلك الثمرة التي ضمنت حركة رجوعها وإيابها الأزلي بين العالمين السفلي والعلوي.
والجدير بالذكر أن سائر الأساطير التي ظهرت في بلدانٍ أخرى كالمكسيك واليابان رأت في فصل الخريف فرصة لتقديم الشكر للطبيعة على الزرع والحصاد. فيما يرى آخرون أن عيد الشكر مثلاً هو استمرار لهذا النوع من الاحتفالات الطقسية حيث يتم فيه التعبير عن الامتنان للطبيعة الأم على منحها الفاكهة للبشرية قبل أشهر البرد.

الخريف في هذه البقعة من العالم

في الوقت الذي تمتلئ صفحات المجلّات ومواقع التواصل الاجتماعي بصور لأناس في أماكن أخرى من العالم يحملون بأيديهم أكواباً من مشروبات ساخنة أو يشاركون وصفات الفطائر والحلويات التي تنبعث منها رائحة القرفة، أو يستعدون لعيد الهالوين ويختارون ما سيشترونه من موضة ثياب خريف 2021 نجلس نحن متوجسين من الأيام القادمة، نتأمل علاقتنا المعطوبة مع فصل الخريف كسائر الفصول الأخرى. كما لو أن الحياة تعجن الناس في هذه البقعة من العالم، وتجبرهم على الدوران حول أنفسهم طوال فصول السنة دون راحة أو استرخاء، فالاجتهاد لا يكفي لخزن طعامٍ يقي جوع الشتاء وبرده. الخريف هنا لا يمنحنا فرصة التأمل والتفكير بالتغيير؛ عاماً بعد آخر يزداد شعورنا بالاغتراب عن جنسنا وعن الطبيعة وحتى اغترابنا عن سائر الكائنات الأخرى التي لم يتعطل إيقاعها البيولوجي، وما زالت تتبع حركة الفصول ودورة حياتها الخاصة. في خريف 2021 أجد نفسي ودون انتباه مني، أحسد سنجاباً يظهر في إحدى الصور ممسكاً حبةً ضخمة من الجوز، حتى يخبئها في لحاء إحدى الأشجار، فهو بالتأكيد سيجد طريقة لعيش طقوس الخريف على طريقته وإنهاء الأعمال الضرورية قبل موسم المطر.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1037
آخر تعديل على الإثنين, 27 أيلول/سبتمبر 2021 23:07