همس بايدن مقابل صخب ترامب

همس بايدن مقابل صخب ترامب

بعد الصخب والعنف، الذي اتسمت فيه فترة رئاسة دونالد ترامب للولايات المتحدة الأمريكية، وبعد كل تلك الإثارة المصحوبة بأفعال شائنة وغير متوقعة، من رئيس إحدى أكبر دول العالم، الذي تحدث لغة أقرب إلى لغة الشارع من لغة الدبلوماسيين، وكل ما تلا ذلك من سلوكيات عنصرية أو شائنة، كان آخرها الاستعصاء ورفض الخروج من البيت الأبيض، بعد كل ذلك بدت شخصية جو بايدن الرئيس الأمريكي الحالي، من النظرة الأولى أكثر اتزاناً، كما لو أنه بدأ أخيراً يتصّرف تصرفاً يليق برئيس.

كان ذلك ربما قبل أن يبدأ جو بايدن بالهمس، همسات قصيرة متقطعة أثناء المؤتمرات الصحفية التي يعقدها.

حين همس بايدن

جاءت همسات بايدن تلك أثناء الرد على أسئلة المراسل في ثلاث مناسبات منفصلة خلال مؤتمر صحفي مساء الخميس في غرفة البيت الأبيض الشرقية، بينما كان يناقش صفقة بنية تحتية بقيمة 1,2 تريليون دولار قال إنه سيدعمها إذا تضمنت حزمة ثانية تكميلية. الصفقة، التي سيتم دفعها مقابل استخدام تمويل مساعدات COVID-19 غير المستخدمة، ستشمل 1,2 تريليون دولار في تمويل البنية التحتية على مدى ثماني سنوات، وفقًا لبيان صادر عن البيت الأبيض.
وعندما بادر أحد المراسلين بسؤاله عن إغاثة إضافية للعائلات وسط جائحة COVID-19 المستمرة، أقترب بايدن من المنصة وهمس: «لقد حصلت لهم على 1,9 تريليون دولار كإغاثة حتى الآن. سيحصلون على شيكات عبر البريد التي تترتب على رعاية الأطفال هذا الأسبوع». في حين جاءت الهمسات الأخرى كرد ع مخصصات البيئة من الصفقة، وقضايا أخرى تتعلق بتعويضات العاملين والموظفين. إذاً فقد كان بايدن يهمس بكل تلك الإجراءات التي عدّها نجاحاً أو خطوات إيجابية.
وما أثار اهتمام الناس بسلوكه أننا وخلال المؤتمر، رأيناه يتحدث بصوتٍ مرتفع نوعاً ما، محاولاً الإيحاء بالثقة والحزم بهدف جعل الكلام ومخارج الحروف واضحةً قدر الإمكان، لكن فجأة وعندما أراد الانتقال لمعلومة أشد أهمية أو أكثر جرأة، نراه يخفض صوته ويحني جسده مقترباً من المايكروفون كما لو أنه يريد البوح بسرٍ خطير يتشاركه مع جمهوره. كان يمكن لتلك الهمسات أن تُنسى لو أنها حصلت مرةً احدةً، لكنها تكررت في ذلك المؤتمر عدة مرات كما لو أن بايدن وجد «المزحة» أو «الحركة» التي ستجعله أكثر قرباً من البشر.
من المعروف بالطبع أن أي متحدّث أو خطيب ناجح يعرّف جيّداً أن التلاعب بإيقاع صوته صعوداً وهبوطاً أحد أهم الأدوات التي يمتلكها لجذب جمهوره والاستئثار بحواسه، لكن يبدو أن بايدن أخطأ باستخدام هذه الأداة، بحيث انقلبت ضده. لا حاجة بالطبع لتأويل كل حركة وإيماءة من حركات الرئيس أياً كان، أو السير على هدى خبراء لغة الجسد الذي يزدهر عملهم مع ظهور كل سياسي جديد. لكن هناك شيء في هذه الهمسات أثار اهتمام الناس. فبعد نشر فيديو الهمسات من قبل أحد أفراد حزب المحافظين، تمت مشاهدة هذا الشريط ما يفوق 3 ملايين مرة، في حين هاجمت الكثير من المنصّات الإعلامية بايدن ووصفته ب (Creep) أو غريب الأطوار.

مسرحيّة واحدة بأداء مختلف

ورغم أن الهجوم الكاسح على بايدن، إبان نشر هذا الفيديو اتسم بسطحية شديدة، بحيث تم التركيّز فيه على الطريقة التي قيلت بها الكلمات بدلاً من الكلمات نفسها. لكن لا يسع المرء سوى التساؤل: لماذا يصّر الرؤساء الأمريكيون على المبالغة في أدائهم، لماذا لا يكتفون بقول ما يجب قوله دون الاهتمام بصنع «شخصية» أو «لعب دور» يقترب من الأداء المسرحي. هذا أيضاً هو السؤال الذي طرحه الممثل والإعلامي البريطاني راسل براند الذي رأى أن بايدن هرب إلى نوع من الأداء المسرحي المبالغ به بدلاً من التصّرف كسياسي بالغ ومحترف وجدّي. بالطبع لا ينفي براند أن السياسة بمجملها أشبه بلعبة أدائية أو مسرحية كبيرة، لأن السياسيين ببساطة لا يمكنهم الإفصاح عن مخططاتهم حقاً أو كشف دوافعهم دائماً، وبالتالي المناورة لقول ما يجب قوله والسكوت والالتفاف عما يجب التعتيم عليه، هي مهارة تتطلب الكثير من المقدرات الأدائية. رغم ذلك يبدو أن بايدن تماهى مع دور الممثل المسرحي أكثر مما يجب.

بماذا يمكن وصف شخصية بايدن؟

بذل الخبراء النفسيون كالعادة جهداً في تحليل ملامح شخصية الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن، ووجدوا بعد التنقيب في تاريخه الشخصي وتصريحاته أنه ينتمي إلى نوع من الشخصية يسمى «الشخصية الوفية» التي تتصف بالاجتهاد في العمل والإخلاص له، والإحساس العالي بالمسؤولية والانخراط في إنجاز المهمات المطلوبة. من وجهة نظرهم، جل ما يريده بايدن في العمق أن يحسّ بالأمان ويتجنّب التهديدات الخارجية. فيما اعتبر بايدن أيضاً من الشخصيات التي تحب أن تنصح الآخرين وتقدّم لهم الإرشاد.
لطالما مثّل ترامب في الوعي الشعبي الأمريكي دور «الهو» وفق مفهوم فرويد لمكونات الشخصية، أي الجانب المستسلم للغرائز وغير المنصاع للقواعد والقيم الأخلاقية. فترامب هو خلاصة الهُيامات والخيالات المضخمة من الأحلام الأمريكية، التي تعبّر عن جنون العظمة والفردية والجشع، والانغماس في الغرائز والرغبة بتكديس المال. أما بايدن على المقلب الآخر فيريد بصورة أو أخرى أن يلعب دور الجد الأمريكي الهادئ، الذي يحكي قصص ما قبل النوم لأحفاده، يحكيها بهدوء وبصوتٍ خفيض وإن كان ينفّذ خارج البيت أعمالاً وحشية ويستمر في تنفيذ هجمات عسكرية هنا وهناك. بايدن أيضاً يريد أن يشبه الرجل الأمريكي العادي، المجتهد في العمل لكن الراغب في السكينة وهدوء البال، والذي يخاف من أي تهديد يعكر صفو الأيام الباقية من حياته. وبالرغم من أن شخصيتي ترامب وبايدن تبدوان مختلفتين بشدة لكن ذلك كله لا يهم لأن أفعالهما حتى الآن تبقى واحدة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1026
آخر تعديل على الإثنين, 12 تموز/يوليو 2021 01:01