قبول الأذى كأنه لم يحدث

قبول الأذى كأنه لم يحدث

نمتلك كبشر في هذه البقعة من العالم علاقة مُركّبة مع فكرة الأذى تحفّز أسئلة مثل: ما هو الفعل المؤذي أساساً؟ متى تعرّضنا للأذى وممن؟ إلى أية درجة كانت ذواتنا شريكةً بإلحاق الأذى بأنفسنا؟ وثم بعد ذلك: كيف تعاملنا مع هذا الأذى؟ وهذا السؤال بدوره يطرح أسئلة فرعية مثل: هل استطعنا بدايةً تمييز حادثة الأذى؟ هل استطعنا تعريفها والاعتراف بها؟ ومن ثم كيف دافعنا عن أنفسنا وكيف جاء رد فعلنا: هل اخترنا مثلاً إيذاء غيرنا كما لو أننا نمرر كرةً تدور بيننا في حلقةٍ لا نهائية؟ أم أننا نجحنا بالدفاع عن أنفسنا واتخذنا موقفاً أو سلوكاً واضحاً تجاه الشخص/ الجهة التي قامت بأذيتنا. وأخيراً متى نشفى من الأذيّة حقاً أو نتجاوزها؟ خاصة وأنّ كل ما حولنا يُلحقنا بأذيةٍ إثر الأخرى ولا يترك لنا فرصة التقاط أنفاسنا.

لماذا يقومون بأذيتنا؟

يُرجع البعض الأسباب المُتخفيّة وراء فعل الإيذاء إلى الجهل بأن ما يفعله المرء مؤذٍ، وبالتالي فالأذى هنا عرضي وغير مقصود. في المقابل هناك من يتعمّد الإيذاء لأنه فعلٌ يجلب له نوعاً من المتعة العصيّة على التفسير، فالإيذاء هنا قصديّ ويصنف عادة في نطاق الأفعال السادية. في المقابل يرى الباحثون أيضاً أن الإيذاء قد يكون شكلاً من أشكال دفاع الكائن البشري عن نفسه أمام شخصٍ آخر يشعره بالتهديد حتى وإن كان هذا التهديد ضمنياً أو مستتراً، وهذا ربما يكون الشكل الأكثر شيوعاً بالمعنى السياسي حولنا، فالأذى كثيراً ما يكون دفاعاً عن المصالح أو استقتالاً للحفاظ على الأوضاع الراهنة كما هي. لكن وبغض النظر عن الأسباب الكامنة وراء فعل الإيذاء، تركيزنا في هذا النص ينصّب على الطريقة التي نقرر بها الدفاع عن أنفسنا.

سيكولوجيا الإنسان المقهور

حفّزت الحرب الأهليّة اللبنانية في ذهن المُفكر والباحث اللبناني مصطفى حجازي أسئلة حول الآلية التي يرد فيها المرء الأذى عن نفسه، وتحديداً في المجتمعات النامية والعربية. وهذا ما دفعه لوضع مؤلفه الشهير: «التخلّف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجيا الإنسان المقهور»، الذي ظهرت الطبعة الأولى منه عام 1981. وفي هذا الكتاب يتأمل الحجازي الإنسان الذي يقع عرضةً للأذى بأشكاله الجسدية والاجتماعية والنفسية والسياسية والجنسية، ويقف عند آليّات الدفاع النفسية اللاشعورية التي يخفف فيها المرء إحساسه بالظلم. وعن هذا يقول حجازي إن القهر يولّد قلقاً جذرياً وانعداماً للشعور بالأمن وإحساساً بالعجز. لكن الشخص المقهور لا يقف مكتوف اليدين إزاء هذه الوضعيّة العسيرة على الاحتمال نظراً لكونها تهدد توازنه الوجودي، بل يحاول مجابتها بأساليب دفاعية جديدة تختلف حسب الظرف والبنيّة النفسية لكل شخص.

آليّات لا واعية في رد الأذى

من الآليات التي استعرضها حجازي في كتابه ما اسماه «الانكفاء على الذات» وفيه يدير المرء ظهره للعالم، ويتعلم قمع رغبته كيلا يشعر بالألم ويقطع صلته بموضوع رغبته تجنباً للشعور بالخواء. هناك أيضاً آلية أخرى تتمثل بالتماهي مع المتسلط وتمثّل عدوانيّته وقيمه، ويرى علماء النفس أن فعل التماهي هذا من أقوى عوامل مقاومة التغيير. وكانت آنا فرويد (ابنة فرويد) أول من لاحظت هذه الآلية الدفاعية حينما فطنت مثلاً إلى أن الطفل الذي يخاف الأشباح يتغلب على خوفه عبر لعب دور الشبح كي يخيف ولداً آخر يُسقط عليه دور الضحيّة، وبذلك يتحول الطفل من كائن ضعيف ومُهَدَد إلى مخيف ومُهدِد. وبالطبع نجد لهذه الظاهرة تجلياتها على الصعيد الاجتماعي والسياسي في البلدان النامية حينما يتماهى المتسلط المحلي بحليفه الأجنبي، أو تتماهى الفئات الأكثر ضعفاً مع مستغليها. ومن الآليات اللافتة التي يفضحها الكتاب «اللجوء إلى الماورائيات»، كالسحر والشعوذة والعرافة والإيمان بالشياطين، وجميعها طرق واهمة للسيطرة على الحاضر والمستقبل وتجنّب التوتر النفسي الذي يخلفه الأذى.
ويظهر العدوان أيضاً كشكل من أشكال رد الشعور بالأذيّة، لكنه قد يكون عشوائياً وموجّهاً إلى ضحايا آخرين، أو يكون موجّهاً إلى الذات، ذلك أن الإنسان المقهور في هذه الحالة يلوم نفسه ويحط من شأنها، ويُعنفها لأن الإدانة الذاتيّة تظل أخف وطأة من إدانة الآخرين.

طبقات الأذى

يستطيع معظمنا كسوريين، تعداد المرات التي وجدنا فيها في موقفٍ مهددٍ للحياة جراء قصفٍ أو سقوط قذائف أو اعتقالات، ونذكر أيضاً مضايقات أو حوادث تحرّش جنسي تعرضنا لها أطفالاً أو كباراً. وكذلك يميّز البعض منا أشكالاً مختلفة من العنف الأسري أو أذيّات نفسية جراء علاقات عاطفية سامة ومضطربة. وفوق ذلك كله نعيش جميعنا مدركين أننا نتعرض لأذى اجتماعي وسياسي يستهدف إحساسنا بكرامتنا وإنسانيتنا. ولأن كل ذلك يحصل مجتمعاً، يمسي لدينا شعورٌ متجذّر بالقهر، فيطوّر كل واحد فينا آلياته للتعامل مما يحصل حوله. وإحدى تلك الآليات الشائعة هي التطبيع مع فكرة الأذى، عبر تغيّر منظورنا للأمر واعتبار أن ما يحصل لنا أمر طبيعي. كما لو أننا نقول لأنفسنا: ماذا لو لم يكن الأذى أذى حقّاً؟ بل كان سنّة الحياة أو تفصيلاً يمكن تجاهله والتغاضي عنه كما لو أنه لم يحصل. في المقابل، نطلق على الأشخاص الذين لا يزال حسهم السليم وإدراكهم لوقوعهم ضحية أذى لقب بـ «دونكيشوتيين»، كما لو أن ما يطالبون به أمرٌ لا يمكن تحقيقه، ويتخيلون عالماً لا وجود له.
وهكذا، وصلت «أذيتنا» إلى درجات غير مسبوقة فعّلنا فيها كل آليات الدفاع اللا واعية كالتماهي مع المعتدي والعدوانية اتجاه الذات والآخرين (المتضررين مثلنا) ومن ثم انكفأنا واستسلمنا ووجدنا أن مستويات قلقنا تنخفض كلّما سامحنا وطبّعنا مع فكرة الأذى. ربما بعد ذلك كله نحتاج وقفة مع الذات نفكّر فيها بكل ما لحق بنا وبالطريقة التي اخترنا بها حماية أنفسنا، كي نحدد بعد كل اعتبار ما يمكن تجاوزه وما الأذى الذي ينبغي لنا الوقوف في وجهه، حتى لو جاءت صحوتنا متأخرة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1042
آخر تعديل على الإثنين, 01 تشرين2/نوفمبر 2021 13:57