الشبكة الاجتماعية السورية في زمن قوتها أو تمزّقها (2)
وجّهت الحرب السوريّة ضربة قاصمة للبنية الاجتماعية السورية، وهذا بالطبع أمرٌ لا يخفى على أحد. لكن ما يتم إهمال الحديث عنه أو حتى تغييبه بشكل مقصود هو أن «الأسرة السورية النموذجية» كانت مهددة قبل الحرب بزمنٍ طويل. فالظرف الاقتصادي الاجتماعي والاتجاه نحو سياسات السوق الحر، وما تبع ذلك من قيم وأخلاقيّات بدأ يتم تكريسها قسراً في المجتمع السوري هي التي وجهّت أولى الضربات للأسرة النموذجية.
فيما بعد جاءت تجارب النزوح والهجرة وما حملته من تفتت مكاني وجغرافي، وما لحق ذلك من خلافات سياسية لتكرّس المزيد من التشققات ضمن الأسرة الواحدة. وما نتج عن كل ذلك من تناقضات وهمية كداخل/ خارج، مؤيد/ معارض، وهي تناقضات سنضطر للتعامل مع نتائجها إلى أمد غير معلوم.
لكن ذلك ليس كل ما في الأمر؛ فالظرف الاقتصادي الاستثنائي في صعوبته يكمل مهمته في تفتيت بنيان الأسرة. بتنا نرى الآباء الذين يزاولون ثلاثة أعمال بحيث لا يبقى لديهم الوقت ليروا أبناءهم أو ينخرطوا في حياتهم. واليوم نشعر أكثر فأكثر بأن الجيل الشاب في سورية ينمو يتيماً بالمعنى الرمزي بحيث تغيب تأثيرات الأسرة على حياته. إذ يأتي الدليل على ذلك بالنسب المرتفعة لإدمان المخدرات عند المراهقين، أو ظواهر العدوانية والعنف المفرط وإدمان مواقع التواصل الاجتماعي والانطوائية والتحرّش الجنسي وغير ذلك من المظاهر التي تشي بأن مفهوم «العائلة» ودورها في حياة أبنائها بدأ يُفتقد ويتلاشى.
الشبكة المزيّفة بدلاً من تلك المتينة
كما أسلفنا سابقاً، وجّهت قيم اقتصاد السوق الحر وما تبعها من أنشطة مؤسسات المجتمع المدني ضربة أخرى للبنية الاجتماعية المتينة، عبر طرحها قيماً وصيغاً جديدة للعلاقات بين الناس، وخير مثال على هذا مصطلح «التشبيك» الذي يبدو للوهلة الأولى مشابهاً لمفهوم الصلات الاجتماعية.
ويعرّف التشبيك بـ «التواصل وعملية تشجيع تبادل المعلومات أو الأفكار بين الأفراد أو المجموعات التي تشترك في مصلحة مشتركة». وهكذا تم تشجيع الموظفين على تطوير مهاراتهم في التشبيك عبر التواصل الفعّال وتطوير مهارات الاستماع (أو التظاهر به)، والتحكم بلغة الجسد والإيجابية (أو التظاهر بها)، إلى جانب تنمية روح الدعابة ومهارات التحدّث أمام الآخرين. لكن سرعان ما بات التشبيك أشبه بمرادف لكلمات مثّل التزلّف والمراءة والادعاء والانتهازية. ويمكن تفسير الأمر ببساطة بكون الكلمة المحورية هنا هي «المصلحة المشتركة» أي إن الأشخاص ينطلقون من مصالحهم ومنافعهم ويبحثون عن أشخاص أو جهات قد تحقق لهم هذه المنفعة، ويحاولون توطيد علاقاتهم بهم لتحقيق هذا الهدف. لكن ما مصير خيوط هذه الشبكة إذا ما تحقق الهدف أو فشل؟ هؤلاء الذين امتلكوا بحق مهارات مرتفعة بالتشبيك كسبوا شبكات مكتظّة وهشّة ومزيّفة وعانوا في السر من وحدة شديدة جداً. ورغم الحظوة التي يلقاها هذا المصطلح لكنه في العمق يقّدم نموذجاً معاكساً للصلات الاجتماعية العميقة والعفوية التي نشأت بين الناس وتربت عليها أجيال طويلة من السوريين تاريخياً.
الشبكة الاجتماعية كقيمة ومكسب حقيقي
تبدو شبكة العلاقات الاجتماعية في سورية، بشكلها الكلاسيكي نقيضاً لمفهوم الفردية الغربي، فلا شيء فيها يكرّس القيم المرتبطة بالفردية. ولهذا كان بعض السوريين وتحديداً الشباب الذين كبروا وهم على تماس أكبر مع الثقافة الغربية يتوقون للتمتع بالفردية كامتلاك حرية القرار والحفاظ على الخصوصية والحق في التعبير عن ميولهم المختلفة دون أن يتم التضييق عليهم بحجة العادات والتقاليد ومخالفة القيم الاجتماعية.
لكن الآن فالوضع مختلفٌ، لأن مفهوم الفردية الغربية ذاته مأزوم، كما أن التماس المباشر معه في تجربة السفر أظهر عيوبه، بحيث لم يعد برّاقاً كما يبدو.
وفيما بعد جاء فايروس كورونا ليعري مفهوم الفردية وسلبياته، وبعد عام أو أكثر من انتشاره بدأت تظهر الدراسات والأبحاث التي تكشف عن تأثيرات الوحدة على الصحة النفسية والجسدية للأفراد. ففي تقرير نشر مؤخراً عبر موقع البي بي سي ذكر أن الوحدة تشكل خطراً على حياة الإنسان أكثر من التدخين والزيادة في الوزن. فالأشخاص الوحيدون عرضة للأمراض النفسية والجسدية أضعاف الأشخاص المحاطين ببيئة اجتماعية حاضنة.
طوال سنوات، لم يكن مفهوماً بالنسبة لشخص سوري هذا النوع من العزلة أو المشكلات التي قد تتولد منها. فنحن نعيش في بيئة مكتظة لا تترك مجالاً للمرء كي يتنفس بمفرده، لكنها في الوقت ذاته تحميه وتضمن ألا يختبر شعوراً مغرقاً بالوحدة.
لطالما سخر الكثيرون من الطباع «العربية» للعائلة، فإذا ما مرض أحدهم مثلاً تجد غرفة الانتظار في المستشفى مليئة بالأقرباء والأصدقاء، رغم تململ الكوادر الطبية من الازدحام غير المبرر، لكن اتضح مع الوقت أن تلك العادات، حتى التي كنا نسخر ونعلن عن ضيقنا منها كانت تحمينا وتشعرنا بقيمتنا كأفراد محاطين بالحب والرعاية.
واليوم تتوالى الأخبار عن انتحار شباب صغار ضاقوا ذرعاً بالحياة وصعوباتها. فالوحدة كما يبدو بدأت تتسلل إلى مجتمع كان يوماً متماسكاً، وها هو الآن يترك أبناءه لمواجهة حظوظهم وأقدارهم وحيدين، بعد أن تهتك النسيج الاجتماعي الذي احتضنهم يوماً.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1030