«المدوّنون» و«المؤثرون» ملوك الإعلانات

«المدوّنون» و«المؤثرون» ملوك الإعلانات

أمٌّ تُحضّر كأساً من الحليب الساخن، أو تضع مُعقماً على جرحٍ في ركبة طفلها. عائلة تتناول الشوكولا أمام التلفاز. تلك بعضٌ من الإستراتيجيّات التي استخدمها المعلنون تاريخياً لإشعارك بأن الذي تراه على الشاشة شخصٌ مثلك، أو ربما شخصٌ أفضل قليلاً لأنه عرف اختيار نوع الحليب الأفضل لتقديمه لعائلته. لكن أحياناً ما يكون بطل الإعلان نجماً مشهوراً وهنا تكون الوظيفة النفسية للإعلان مختلفة؛ فالبطل هنا جذّاب، جميّل، ناجح، وعادة ما يشعر المستهلكون بهوة سحيقة تفصل بينهم وبينه. لكن هذه الهوة تضيق عن طريق السلعة التي يتم الترويج لها؛ فإن كان هو يشرب الببسي، وأنا أيضاً قادرة على شراء الببسي، ففي المحصلة لدينا أرض مشتركة تجمعنا.

ورغم أن صناعة الإعلانات صناعة راسخة تحتاج قدراً كبيراً من الجهد والمال، لكن كان هناك نوع من الوصمة التي ترتبط بفعل الإعلان الصريح عن سلعة ما، كما لو أنه فن تجاري أقل مرتبة من غيره. والدليل على ذلك خجل بعض الفنانات في ظهورهن في إعلانات مطلع حياتهن المهنية وقبل أن يصبحن شهيرات. أما العمل الدرامي فكان يعاب إذا ما ظهر في إحدى لقطاته شعار واضح لسلعة ما، بحيث يبذل جهداً إضافياً لإفراغ المكونات من أغلفتها، وإخفاء أية علامة تجارية مطبوعة على ثياب الممثلين. هذا بالطبع أمرٌ يرتبط بعلاقة الثقافة العربية تحديداً مع فكرة الإعلان لأن بلداناً أخرى كانت أكثر تساهلاً في الإعلان لمنتجات محددة عبر الأفلام السينمائية، والمثال الأبرز على ذلك العلاقة الوطيدة بين شركات التبغ الأمريكية وهوليوود.

تلفزيون الواقع واكتشاف بدعة «المدونين» و«المؤثرين»

شكلّت برامج «تلفزيون الواقع» التي ظهرت في أمريكا في التسعينات، قفزة في مفهوم الإعلان الضمني عن «نمط الحياة» بعيداً عن سلعة واحدة بعينها. إذ يدين العالم (للأسف) لهذا النوع من البرامج باكتشاف غواية لم تفطن لها صناعتا الترفيه والإعلان سابقاً، وهي غواية الجمهور في مراقبة الناس العاديين ساعة بساعة، ومشاهدتهم يقومون بأي فعل مهما كان.
بهذا المعنى مهّد تلفزيون الواقع، وبعده مواقع التواصل الاجتماعي لظهور أبطال جدد في مجال الترفيه والإعلان على رأسهم ما يعرف بـ (bloggers) و (Influencers)، أي المدوّنون والمؤثرون. وبات هؤلاء اليوم نجوم عالم الإعلانات.
فالمدوّن، هو مصطلح ظهر أواخر التسعينات للإشارة للأشخاص الذين ينشؤون مدونات إلكترونية شخصية يكتبون فيها تدوينات عن موضوعات معينة ويشاركونها مع قرائهم، فهناك مثلاً مدونات سياسية وأخرى عن الطعام أو الرحلات والسفر. لكن ومع ظهور مواقع التواصل الاجتماعي، بدأ المصطلح يتسع ليشمل صنّاع المحتوى التي ينتجون فيديوهات مصوّرة حول الموضوعات التي تهمهم. فالبعض يعرّف المدونين اليوم بأنهم: «أشخاص اختاروا مشاركة خبراتهم أو معارفهم عبر منصّة رقمية» أو «هم أشخاص يعلّمون ويلهمون ويرفهون عن جمهورهم عبر نشر محتوى مرتبط بأهداف وخطط تسويقية أكبر». فعلى سبيل المثال قد تنشئ فتاة صفحة للأزياء والعناية بالبشرة، فتخصص حلقة لاستعراض مجموعتها من سراويل الجينز، باختلاف موديلاتها وقصّاتهاـ ومن أجل شرح روتين العناية الصباحية بالبشرة، قد تستعرض أمام متابعيها 15 مستحضراً من الزيوت والكريمات الضرورية جداً جداً للعناية بالبشرة. لا حاجة للقول بأن تلك الإعلانات تكون في الكثير من الأحيان مأجورة، أو «مدعومة» (Sponsored Video) وفق المصطلح الرائج لتخفيف حدة الطابع الاستهلاكي للأمر.
وبالطبع يكون مصطلح «الأشخاص المؤثرين» هنا أعقد في الفهم والتحديد؛ فكيف نستطيع أن نقول بأن شخصاً ما شخص مؤثر، وبناءً على أي اعتبار؟ وكيف نستطيع أن نحدد إن كان التأثير إيجابياً؟ الطابع الهلامي لهذا المصطلح يجعله يقبل تحت مظلته أي شخص قادر على جذب أكبر عدد من الجمهور، مهما كان نوع المحتوى الذي يقدمه.
في العالم العربي، ومن أجل نشر «إعلان مقنّع» لإحدى المؤّثرات وهي تستعرض مجموعة من الثياب التي حصلت عليها مؤخراً من علامة تجارية ما، قد يصل سعر تلك الدقائق الثمينة من الإعلان إلى 3000 آلاف دولار، رغم أن هذه اللقطات قد تظهر ضمن خاصيّة «الستوري» أي إنها تختفي بعد مرور 24 ساعة على بثّها. والمثير للغيظ أن هذه البضائع تأتي على شكل هدايا وأعطيات، بحيث لا يكون على الفتاة الحسناء سوى فتح العلب واستعراض مكوناتها وإظهار فرحها بالهدايا الجديدة، وأحياناً ما تعتذر من جمهورها لأنها نسيت فتح طرد وصلها منذ عدة أشهر بسبب اكتظاظ منزلها بالعلب والهدايا.
لضمان أن تختلف «المؤثرات» عن بطلة إعلانات حليب النيدو مثلاً، لا بد أن تمثّل حياتها أمام الجمهور بشكل طبيعي، وعلى مدار الساعة؛ كيف تشرب القهوة، وماذا ترتدي لممارسة الرياضة، كيف تنتقل إلى شقتها الجديدة، وكيف تتألم من حروق الشمس بعد نهارٍ طويل على الشاطئ. حتى أن بدعة جديدة ظهرت واسمها (أسئلة وأجوبة) وتتضمن أن تطلب من جمهورها كتابة أسئلة تخطر لهم لتجيب عنها مجتمعة في فيديو منفصل. وغالباً ما تكون الأسئلة شديدة الخصوصية مثل؛ كيف تعرفت إلى زوجك، كيف تعاملتما مع فرق العمر بينكما، هل تشعرين بالغيرة، ولماذا يظهر في الفيديوهات التي تصورينها أنك تمضين المزيد من الوقت مع ابنك الأكبر وتهملين ابنك الرضيع؟
والجدير بالملاحظة أيضاً، أن المدونين والمؤثرين، يجرّون شيئاً فشيئاً أفراد عائلتهم أو أصدقائهم كي يظهروا في هذه الفيديوهات بصحبتهم، لجعل الحياة طبيعية ويومية لأكبر درجة ممكنة، فلا بد أن يظهر الزوج (الرومانسي غالباً) مع الأم وبعض الأصدقاء، في حين يتم استخدام الأطفال والحيوانات الأليفة كإضافة محببة أيضاً. وبالتالي يكبر الأطفال أمام شاشات الموبايل التي تصوّر كل لحظة يقضونها بصحبة أمهم.
يختصر الـ (bloggers) و (Influencers) اليوم كل الإستراتيجيات الدعائية السابقة، فهم يدمجون الشخص العادي بالشخص المشهور ضمن قالب تلفزيون الواقع. وبالتالي يمكن القول اليوم إن النزعة الاستهلاكية وصلت إلى أعلى درجاتها، بحيث تم الدمج المطلق بين الشخص والسلعة، فعند مشاهدة أي مدوّن أو مؤثر يستعرض أمام جمهوره منتجات مختلفة، لا بد أن يسأل المرء نفسه: ماهي السلعة التي يتم الترويج لها الآن حقاً؟ ولا يصعب عليه الاستنتاج بأن الشخص الماثل أمامه هو السلعة الحقيقة المصنّعة والقابلة للبيع.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1033
آخر تعديل على الثلاثاء, 31 آب/أغسطس 2021 20:26