هواجس أمريكيّة: ماذا يحصل في عقول اليمين الأمريكي المُتطرّف
قبل أسابيع ضجّ الرأي العام الأمريكي بجريمة قتل حصلت في الولايات المتحدة، حينما قام ماثيو تايلور كولين (40 عاماً) بذبح طفليه حتى الموت عبر طعنهما بشكلٍ متكرر، بعد أن غادر بهما من ولاية كاليفورنيا إلى المكسيك، ليعود أدرجه دونهما وهو يحمل آثار دماء على ثيابه وفي سيارته، ما جعل الشرطة تشك في أمره وتلقي القبض عليه.
لكن ما هز الرأي العام بشدة، لم تكن بشاعة الجريمة و وحشيتها، وإنما تفاصيل أخرى مرتبطة بالقضيّة. فبدايةً وقبل حادثة القتل الوحشي تلك، كان ماثيو كولين رجل عائلة عادياً، يعمل مدرباً للـ «ركمجة» (ركوب أمواج) على ساحل كاليفورنيا، ولم يسبق أن أثار حفيظة أو شكوك أحد من أهله أو أصدقائه بأنه قد يرتكب فعلاً مرعباً مثل هذا. كان رجلاً عادياً و«مسالماً». لكن الأمر الأبرز الذي جعل هذه القضية مختلفة عن سابقاتها يرتبط بتصريحات ماثيو للشرطة حينما اعترف مباشرةً ودون مواربة بأنه قام بجريمة القتل. وحين سؤاله عن الدافع أجاب بأنه شاهد رؤى تقول بأن زوجته تحمل حمضاً نووياً شيطانياً نقلته بدورها إلى أطفاله، وأنهم كانوا سيصبحون وحوشاً حينما يكبرون لذلك اضطر لقتلهم كي يحمي البشريّة من خطرهم. وفيما بعد وعندما بدأت الجهات المعنيّة ووسائل الإعلام الأمريكيّة بالتنقيب حول الموضوع اتضح تأثّر ماثيو بعدد من نظريّات المؤامرة المنتشرة في صفوف ما يسمى باليمين المتطرف في أمريكا، ومعظمها تتمحور حول فكرة وجود قوى تريد التلاعب بالناس عبر مؤسسات الدولة ووسائل الإعلام للسيطرة على العالم، أو أن هناك أشخاصاً مختارين سيأتون لتغيير مصير البشرية وكشف الألاعيب التي تحصل لإنقاذ البشرية، وتحويل الأرض إلى جنّة أو يوتوبيا، وبعض تلك النظريات تروّج لفكرة أن دونالد ترامب قد يكون أحد هؤلاء الأناس المختارين.
خلال التحقيقات عادت الجهات المعنية للبحث عن مؤشرات كان ماثيو قد أظهرها في السنوات السابقة، وتدلل على هذا التوجّه الخطير الذي اتخذته شخصيته، لكنهم لم يجدوا سوى بعض منشورات على الفيسبوك تناقش قضايا ترتبط بالدين وتشير بشكلٍ موارب إلى أفكار يمكن إحالتها إلى نظريات المؤامرة، عدا عن ذلك، كل شيء في هذا الشخص بدا طبيعياً، فمن يشعر أو يقتنع بأن هناك مؤامرة تحيط به لن يرتاح في مشاركة أفكاره على العلن، وسيحتفظ بها لنفسه.
يا رجل: أنت لست حصاناً أو بقرة
في سياق آخر، انتشر مؤخراً في الشارع الأمريكي، وتحديداً في الأوساط اليمينيّة، قناعة مفادها أن عقار «ivermectin» الذي كان عادةً ما يستخدم للمواشي والأحصنة قادرٌ على علاج مرضى كورونا والتخفيف من إصاباتهم، تزامن ذلك بالطبع مع انتشار توجّه عام رافض لأخذ اللقاحات رغم التزايد الكبير في أعداد الإصابات في أمريكا. ففي ولاية مسيسيبي مثلاً لا يتجاوز عدد من تم تلقيحهم 37% من تعداد السكان. وعموماً لم تستطع أمريكا حتى الآن تلقيح أكثر من نصف البالغين في البلاد.
وجاء بعض مذيعي قناة فوكس نيوز وبرنامج (talk-radio) في صدارة المروجين لهذا العقار بعد أن كانوا وعلى امتداد شهور يروجون عبر برامجهم وتقاريرهم الإعلامية لتحذيرات وشكوك حول فعالية اللقاحات المعتمدة الحالية وتأثيراتها الجانبية. وللتأكيد على هذه النتيجة وجدت بعض استطلاعات الرأي أن متابعي قناة فوكس نيوز أظهروا تردداً أكبر من غيرهم في الحصول على اللقاح.
وفي الرد على تشنّج اليمين، من فكرة التلقيح، كتب بعض المعلقين ساخرين: «لا بد أن تخرج وسائل الإعلام لتقول بأن بايدن سيعطي كل تلك اللقاحات غير المستعملة للمهاجرين، عّل ذلك يشجّع اليمينيين على أخذ اللقاح اللعين». والتعليق الأخير يصور اليمين الأمريكي كتيار مرتعد ومثقل بالكراهية، بحيث لا يمكن أن يُعرف مما يخاف أكثر؛ من لقاحات كورونا أو المهاجرين؟
الخوف الهذياني
غالباً ما يتم تحليل اعتماد الولايات المتحدة الأمريكيّة على «الخوف» أو «التخويف» كشكل من أشكال الهيمنة التي تعتمدها على الشعوب الأخرى، لكن ذلك يصلح أيضاً وبدرجة كبيرة على الداخل الأمريكي. ينظر بعض المفكرين ومن بينهم سيرجي قره مورزا إلى الخوف الأمريكي كخصوصية ثقافية تميّزه عن غيره من الشعوب. يرى هذا المفكر أن جذور هذا الخوف يعود إلى مكونات متأصلة في الثقافة الغربية قوامها الخوف من الموت والرغبة بحفظ الحياة، ويقارن ذلك بموقف المجتمع الروسي مثلاً الذي يبدو حتى في قصصه وأمثاله الشعبية القديمة أكثر تصالحاً مع فكرة نهاية الحياة، واعتبار الموت أمراً مشتركاً يُقرّب الناس من بعضهم ويجعل الأبناء يلحقون بالأجداد ضمن سلسلة لا تنقطع. في حين يرى مورزا أن الخوف «على السلامة» يأخذ في الغرب، وفي أمريكا تحديداً أشكالاً أكثر هستيرية.
منذ انتهاء الحرب الباردة وحتى اليوم يواجه الأمريكيون قائمة لا تنتهي من المخاوف، كان أولها الخوف من هجوم محتمل من الاتحاد السوفيتي عليهم، حتى حينما كان الاتحاد السوفييتي في أضعف حالاته بعد الحرب العالمية بحيث لم يكن قادراً على القيام بحرب متل هذه. فيما بعد ظهرت مخاوف نووية، وأخرى تتعلق بالخوف من نقص الطعام (حتى حينما كانت الثلّاجات تفيض بالأطعمة)، وفي وقت آخر ساد الخوف من الإرهاب، حتى وصلنا إلى كورونا ولقاحاته، وغير ذلك من المخاوف المنفلتة من عقالها التي أخذت شكل نظريات مؤامرة تخاف الكائنات الفضائية والجهات التي تريد السيطرة على الأدمغة البشرية. المشترك في تلك المخاوف رغم تنوعها واختلاف مراحلها التاريخيّة هو الشعور الدائم بالاستهداف والتهديد والخوف من الاندثار. واليوم يصل الخوف الهذياني إلى حدوده القصوى، خاصةً وأن هناك ما يبرره؛ فأمريكا لم تعد بكامل قوتها. وتراجعها كقوة أساسية هي حقيقة ينبغي تقبلها والتعايش معها. دون أن يعني ذلك الارتعاد خوفاً. ربما يكون هذا هو القاسم المشترك الذي يجمع بين قصة ماثيو كولن الذي قتل أبناءه خوفاً من تحولهم إلى وحوش وبين الموقف الهستيري المتخوّف من اللقاحات، حتى مع ارتفاع نسبة الإصابات بمتحور دلتا في الداخل الأمريكي. فالاثنان من التعبيرات المتطرفة عن الشعور العميق بالتهديد.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1035