عبد الرزاق دياب
email عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
الكتابة عن مشكلة الصرف الصحي في سورية تشبه إلى حد كبير محاولة زرع الألم في جثة متعفنة، هذا إذا أردنا أصلاحاً، لكننا نكتب بلا أمل عسى أن يكون في إثارة الرعب والفزع حول قضية صارت تثير أكثر من ذلك.
لاتسلم مدينة في سورية من وجع الكارثة، ولا ريف إلا وينتظر المياه السوداء لتغرق أرضه دون هوادة، ويذهب رزقها إلى أفواه أبنائنا أيضاً دون هوادة.
لكن أكبر الهم في دمشق وريفها، حيث الزحام وفوضى السكن العشوائي، ونفايات المصانع والمعامل، ومخلفات المشافي، في دورة تلوث حولت الرئة التي تتنفس منها المدينة إلى كومة من السواد الذي يبشر بمواسم للموت القادم مما نأكل ونشرب، مع انخفاض منسوبات المياه الجوفية، واستنزاف مرعب لحوضي بردى والأعوج.
أبينا أم شئنا، خسرنا أم ربحنا، مرت سنة من تضاد، سنة من التناقضات، انهزمنا في أغلب جولاتها، انتصرنا في البعض، يئسنا في البعض الآخر، مرت سنة من الصراع والتمنيات والخيبات.
ودعنا بعض من نحب، نحترم، تعارفنا على أصدقاء جدد يشبهوننا في الرجاء، تذكرنا أحباء قدامى مضوا، أخذتهم طرق جديدة، أحلام جديدة، وأهداف لم يعتنقوها ذات وقت.
كتب سعد الله ونوس في العام 1967 مسرحية حفلة سمر من أجل 5 حزيران، وانتظر على نار ردة الفعل التي سيخرج فيها الجمهور بعد العرض، بعد أن حمًل مقولة العمل اتهاماً واضحاً للسلطات العربية بالمسؤولية عن الهزيمة... صفق الجمهور للعرض طويلاً، وتبادل المثقفون منهم الآراء حول العرض، وفهم أغلبهم الرسالة، وحيوا شجاعة ونوس في عدم المواربة، وتأبطوا أكواع نسائهم.. خارجين.
من حقنا نحن الذين تآكلت أقدامنا من الجري وراء كرسي مريح في حافلة، أو كلمة طيبة من سائق، أو راكب مثلنا لا يدفعنا على وجهنا، من حقنا أن نحلم قليلاً، كذلك من حق المدينة التي انكسر ظهرها من تدافعنا، وتزاحمنا، أن تحلم ببعض الهدوء.
بشهوانية، وبرقصة محمومة، محرمة وفاجرة، يصل (زوربا) إلى محكمة الرفض.. ممثلاً الضعفاء والمسحوقين الواقفين في وجه الظلم، ويطلق صرخته كالرصاص: «لقد قلت لك أيها الرئيس، إن كل ما يجري فوق هذه الأرض.. غير عادل... غير عادل، وأنا دودة الأرض (زوربا) الحلزون، لا أوافق على ذلك».
أراد بيغماليون أن يكون مختلفاً كأي مبدع يأخذه الجنون إلى مساحات ضبابية لا عودة فيها، أو إلى الموت المريب، مشنوقاً أو ملقى على قارعة الطريق كورقة خريف صفراء.
دنا من تمثاله الرائع بخوف، لا يشبه خوف الخالق من صنعه، بل خوف المبدع من أناقة قطعة حجر صارت أشبه بأنثى لا تنال.
أمسك بقلب مضطرب أصابع التمثال الأنثى، وسرت قشعريرة دافئة في أوصال الأنثى الحجر، شيء يشبه الدم مر في العروق الرخامية، استحالت بعدها لمساً حاراً، وناضجاً يجر القلب إلى الفجور البشري الآثم.
الدلالة الأكيدة على حياة التمثال انفتاح عينيين غاية القدسية، لقد رأى التمثال، انهالت قبلة حارة لا واعية على الشفتين النضرتين، وجن جنون بيغماليون المبدع.
ما من شك أن الإنسان صاغ في مسيرة تطوره، البدائل لمواجهة الأزمات التي يعيشها، من المشاع الأول، فالزراعة، فالتشكيلات المتتالية اللاحقة، وصولاً إلى هذا الزمن الذي تحول الإنسان فيه إلى مشاع للمتحكمين والمتنفذين.
ولا تنحصر الأزمات في الكوارث الطبيعية من زلازل وبراكين وأعاصير فقط ، وإنما أزمة البقاء بمعدة مليئة ويد غير ممدودة للتسول.
وأزماتنا، نحن السوريين من الصنف الثاني، فلم يتهددنا إعصار، أو هزة أرضية، لا سمح الله، والطبيعة حتى اللحظة تعقد معنا معاهدة صلح قديمة لم تحنث بها، والأدق أنها تبدو مشفقة علينا.
ولكن، ما الذي فعلناه للحد من تأثير الأزمة فينا؟ وما هي البدائل التي أعددناها ونحن الذين تمرسنا بها وتمرست بنا؟
حوصرنا من فمنا، واصطففنا طوابير أمام مؤسسات التجزئة في منتصف الثمانينات للحصول على كيس محارم أو علبة سمنة، رواتبنا لا تكفي لثالث يوم في الشهر، ركبنا فوق بعضنا في النقل الداخلي بدعوى اشتراكية البؤس وما زلنا كذلك في عصر السوق المفتوحة، غارت مياهنا، وبردى يحتضر، والصرف الصحي يقطع النفس في غوطتنا، والتجمعات الفقيرة سوار في معصم الوطن، والفاسدون رفعنا شعارات محاربتهم على أسنة الرماح ويتكاثرون كالجراد، وخرّجنا الجامعيين بالآلاف، واستحالوا لمجرد عاطلين عن العمل في قائمة البطالة، مع كل هذا ما زلنا على قيد الحياة.... ببدائلنا؟؟
العبارة التي أعتبرها ذات شأن في ورطتي الأبدية بالصحافة ودخولي هذا العالم المفخخ تارة بالمواقف الحقيقية وأخرى بالترهات، هي لكاتب ألماني تقول: «من يعمل في مهنة الصحافة يقضي النصف الأول من حياته في البحث عمّا يجهل، والنصف الثاني في السكوت عمّا يعرف».
حينها كانت الصحافة حلماً خرافياً، وقراراً لم يوافقني عليه أحد من أسرتي، والمقربون مني، كونهم على ثقة بالمزاج الانتحاري الذي أتحلى به، ولقناعتي حينها أن الصحافة هي العين التي ترصد الأخطاء فقط، وأنها تمتلك القوة على التغيير، وكانوا يضحكون من سذاجة ماأعتقد.
مازالت أمي تشم جرزة البقدونس عند شرائها من جارنا السمان (أبو سليمان)، لكنها صارت ترمي بها جانباً..
يستدرك السمان أنها مسقية بمياه نظيفة.. العجوز التي تعرف رائحة الأشياء الحقيقية لا تنطلي عليها شطارة (أبو سليمان)، فهي تعرف جيداً رائحة النعنع والفجل والبقدونس، وحتى التراب.
أما نحن.. نحن الذين عشنا زمن صنابير دمشق المفتوحة ليل نهار كسبيل للعطاشى، ولم نعد نشعر بالمذاق نفسه وتلك النكهة لطعام أمهاتنا.. نحن الذي تغير.. نحن، أم أن هناك من سرق تلك الرائحة والطعم، ودس فيها شيئاً غريباً.. وترى من قطع الماء عن السبيل في جادة الحلبوني ومدخل المتحف الحربي حين كان العطش يشقق حناجرنا؟؟
كما جرت العادة، في ليلة حالكة السواد مليئة بالغبار، اتخذت الحكومة قرارها بزيادة سعر صفيحة البنزين من 720 ـ 800 ليرة سورية، وهي الزيادة الثانية على هذه السلعة خلال خمسة أشهر.. في خطوة جديدة على طريق رفع الدعم عن المحروقات بأكملها، مع تسارع التحضير لتوزيع مادة المازوت بواسطة القسائم التي سوف تعتمد كـ(بونات)، توزع على العائلات السورية بمعدل /1000/ لتر لكل عائلة، مع تردد إشاعة يتناقلها السوريون عن تراجع الحكومة عن هذا الإجراء..
ومع ذلك تأتي خطوة رفع البنزين مع تصاعد ارتفاع الأسعار في السوق السورية على جميع المواد بادرة تنذر بأزمات جديدة، وصلت حرابها الطويلة أخيراً إلى الخبز السياحي والسمون دون أن تطال الخبز العادي.. ولكنه إيذان بدنو الارتفاع من أساسيات المواطن، خاصة أن هذه الارتفاعات تزامنت مع تصريحات حكومية بعدم وجود نية قريبة بزيادة الأجور، وزيادة البطالة، وغياب تام لدور الدولة، والفلتان الذي يصاحبه تناقص دور الرقابة التموينية.. ووضوح الاحتكارات، واليد الطولى للتجار، رغم التبريرات التي تنسب للغلاء العالمي.. ولكن ماذا عن المواد المنتجة محلياً؟