مطبّات بيغماليون

أراد بيغماليون أن يكون مختلفاً كأي مبدع يأخذه الجنون إلى مساحات ضبابية لا عودة فيها، أو إلى الموت المريب، مشنوقاً أو ملقى على قارعة الطريق كورقة خريف صفراء.

دنا من تمثاله الرائع بخوف، لا يشبه خوف الخالق من صنعه، بل خوف المبدع من أناقة قطعة حجر صارت أشبه بأنثى لا تنال.

أمسك بقلب مضطرب أصابع التمثال الأنثى، وسرت قشعريرة دافئة في أوصال الأنثى الحجر، شيء يشبه الدم مر في العروق الرخامية، استحالت بعدها لمساً حاراً، وناضجاً يجر القلب إلى الفجور البشري الآثم.

الدلالة الأكيدة على حياة التمثال انفتاح عينيين غاية القدسية، لقد رأى التمثال، انهالت قبلة حارة لا واعية على الشفتين النضرتين، وجن جنون بيغماليون المبدع.

على هيئة تمثال بيغماليون استيقظ المواطن الخائر من حلمه كمن مسته قبلة حارة، ملسوعاً، كان حلماً جميلاً، على هيئة الفردوس الأخضر تمتد الساعات التي كانت تؤرقه.

يستيقظ المواطن الخائر، يحلق ذقنه الخشنة، يتعطر، يركب سيارته الصغيرة، يصل في الثامنة صباحاً، يبتسم في وجوه إخوته المراجعين، وبدورهم يبتسمون ويشكرون الله على بلد لا حياة للروتين في مؤسساته.

بعد الغداء، ينام لساعتين، ثم في الخامسة مساء يخرج إلى حديقة المدينة حيث يتجمع المواطنون من أمثاله لممارسة الرياضة المسائية، فلقد حرص طوال عمره على عدم الارتكان لكرسي الوظيفة، وبالتالي كما أوصاه صديقه الطبيب سترتفع نسبة الكولسترول في دمه النقي، ويضعف قلبه، ثم يعود في المساء ليأخذ حمّاماً دافئا، ويستعد لعشاء مع أسرته في محل فاخر.

المواطن الخائر الذي يعيش حياة هانئة ورتيبة لا يخون زوجته، وأبناؤه في أرقى المدارس الخاصة، وربة منزله تشتري كل حاجياتها من السوبر ماركت، أما الدوام المسائي لصغاره فهو نادي الفنون أو معهد الموسيقى، حياة المواطن الخائر هادئة ورتيبة.

سقط الغطاء عن وجه الخائر، استيقظ ساخناً ومرتجفاً، صاحت الزوجة، وصاح الأولاد الذاهبون إلى المدرسة الحكومية، نريد فطوراً ككل البشر، منذ أشهر وأنت تعدنا بأقلام جديدة، ودفاتر ملونة، ورحلة إلى البحر، وحضور مسرحية للأطفال، كل شيء إلى آخر الشهر.

وقف في وسط السرير، أي حلم هذا، وكيف تجرأ على مجرد الحلم، هو الذي اعتاد أن يمشي الحيط الحيط، اليد التي لا تقدر عليها قبلها وادع عليها بالكسر، على قد فراشك مد رجليك، (الذي يتزوج أمي يصير عمي)، لقد عاش عمره في البحث عن لقمة أبنائه، كيف تجرأ على الحلم.

هرع من نومه، بالكاد غسل وجهه، ترك لأصابعه الخشنة مسؤولية توضيبه، وارتدى على الدرج قميص بذلة ( السفاري) الزرقاء مهترئة الأكمام، وصل إلى الموقف المزدحم بالمنتظرين، صعد جانباً، سرى خدر واخز في قدمه اليمنى، وسارع إلى تبديلها باليسرى التي عانت بعد قليل كأختها، هبط من السرفيس كمشلول، وصل متأخراً كالعادة، رنت كلمات المدير القاسية في أذنيه، ثم عاد إلى طاولة الوظيفة، دون حلم، مجرد كرسي يجلس على كرسي، لم يعد يسمع صوت أحد، تجمهر المراجعون على طاولته، بعيون حائرة، هائمة، المواطن الخائر خلف طاولته.

خرج في الثالثة هائماً على وجهه، استدان من زميله المرتشي، خمسمائة ليرة، دخل السوق، ارتفعت الأسعار، اشترى كيلوين من البطاطا ومثلها من البندورة، جرزتي بقدونس، وخمس بيضات للفطور، ونصف كيلو زيتون، استقل باص النقل الداخلي، ومشى في مدخل الحارة مترنحاً إلى وكره الأبدي.

الغداء كالعادة، بطاطا مقلية، مسلوقة، (مفركة)، سلطة بماء وزيت وقليل من البصل تشبه إلى حد كبير سلطة (دلا) المفضلة لدى يعرب العيسى، ثم كأس من الشاي، النوم على الأرض كقتيل، والشخير المزعج كقطار، ثم الهروب إلى الشارع لبيع اليانصيب.

في المساء، ينام الخائر جالساً، وصوت الزوجة في أذنيه، هذه هي الحياة التي وعدتني بها، هذا هو الحصان الأبيض ( تشير إلى سريرها الأرضي)، ماذا فعلت لك الشهادة، الطموحات، الأحلام الكاذبة، هل تشتري بها بيتاً لهؤلاء الصغار.

بيغماليون الفنان الإغريقي الحالم، المبدع، لا نملك يداً تبدع، لا شفاه لدينا سوى للدعاء، لا امرأة إلا لتقرعنا، لا سرير إلا للحلم المفزع، أحلامنا ستبقى مجرد أكسير يدب بعض الحياة في جثثنا الخائرة.

المواطن الخائر.. نحن، الباحثين عن حلم، عن فسحة للحياة وسط الصخب اليومي في دوامة الفقر، وقسوة السوق، وقلة الحيلة، وشخيرنا المتصاعد.

آخر تعديل على الأربعاء, 02 تشرين2/نوفمبر 2016 13:02