البدائل الحكومية المقدمة للشعب السوري.. القانون بالرشوة.. والبسطات.. والدروس الخصوصية..
ما من شك أن الإنسان صاغ في مسيرة تطوره، البدائل لمواجهة الأزمات التي يعيشها، من المشاع الأول، فالزراعة، فالتشكيلات المتتالية اللاحقة، وصولاً إلى هذا الزمن الذي تحول الإنسان فيه إلى مشاع للمتحكمين والمتنفذين.
ولا تنحصر الأزمات في الكوارث الطبيعية من زلازل وبراكين وأعاصير فقط ، وإنما أزمة البقاء بمعدة مليئة ويد غير ممدودة للتسول.
وأزماتنا، نحن السوريين من الصنف الثاني، فلم يتهددنا إعصار، أو هزة أرضية، لا سمح الله، والطبيعة حتى اللحظة تعقد معنا معاهدة صلح قديمة لم تحنث بها، والأدق أنها تبدو مشفقة علينا.
ولكن، ما الذي فعلناه للحد من تأثير الأزمة فينا؟ وما هي البدائل التي أعددناها ونحن الذين تمرسنا بها وتمرست بنا؟
حوصرنا من فمنا، واصطففنا طوابير أمام مؤسسات التجزئة في منتصف الثمانينات للحصول على كيس محارم أو علبة سمنة، رواتبنا لا تكفي لثالث يوم في الشهر، ركبنا فوق بعضنا في النقل الداخلي بدعوى اشتراكية البؤس وما زلنا كذلك في عصر السوق المفتوحة، غارت مياهنا، وبردى يحتضر، والصرف الصحي يقطع النفس في غوطتنا، والتجمعات الفقيرة سوار في معصم الوطن، والفاسدون رفعنا شعارات محاربتهم على أسنة الرماح ويتكاثرون كالجراد، وخرّجنا الجامعيين بالآلاف، واستحالوا لمجرد عاطلين عن العمل في قائمة البطالة، مع كل هذا ما زلنا على قيد الحياة.... ببدائلنا؟؟
التدافع
البديل الأول، الدرس الأول الذي حفظناه عن ظهر قلب وما زلنا نمارسه كلما احتجناه.. في الثمانينات حوصرنا، وتحملنا في سبيل مواقفنا السياسية القلة والحاجة في أبسط حاجياتنا الإنسانية، ولكننا خرجنا منها أكثر صلابة، وبدرس سلبي: التدافع، عدم الوقوف بانتظام، القوي من يستطيع أن يحتال ويتجاوز الضعيف، ويخطف مونته، وللآخر رب يعطيه.
وبإخلاص شديد مارسناه في كل مكان يستحق بعض الوقوف خارج الأزمة، أمام الفرن، في صف المدرسة، الصعود إلى الحافلة، وحتى دخول المساجد والخروج منها يوم الجمعة، والدخول إلى منازلنا.
*في السادسة صباحاً أو في الثالثة بعد الظهر، الأفران الاحتياطية في المزة مثال حي على تدافعنا، أربعة أفران متلاصقة، وفي كل فرن ثلاث كوى، للنساء، للرجال، للعساكر، ومع ذلك الشاطر من يمشي حاضناً أرغفته إلى شبك التبريد.
*صباحاً وفي وقت الذروة، ما زلنا نطارد في البرامكة سرافيس المعضمية وجديدة عرطوز للوصول إلى الكراج المأساة (السومرية).
*في كل الأوقات، يصر سائقو النقل الداخلي على تذكيرنا الأبدي بمرحلة اللهاث خلفهم، أو الركوب فوق بعضنا كالأغنام، لا يمشي خطوة واحدة حتى يتعذر عليه رؤية البلور الخلفي، أو حتى يتدلى أحدهم من الباب.
*في موسم الشتاء تدافع جماعي، بشر وسيارات من جميع الأصناف، كالونات معدنية وبلاستيكية، أمام الكازيات، ذات مساء طارت الكالونات، علا صوت زمامير السيارات، أمر مدير المنطقة بوضع شرطي لتنظيم التدافع.
الرشوة
تجاوز الإشارة الضوئية، يعني عقوبة مادية وقد تصل إلى الحجز أو سجن السائق، الدخان المنبعث من السيارة مخالفة تسمى «تصاعد دخان»، قيادة رعناء، عدم التقيد بالمواقف الرسمية، عدم تأمين مواطن، عدم وضع حزام الأمان حديثاً.
كل هذه المخالفات، وإن تنوعت في خطرها، وقيمتها المادية، يمكن أن تجد لها حلاً وهو الرشوة، تصغر وتكبر حسب نوع المخالفة، من الرقم الحديدي 25 ليرة سورية، وانتهاء باتفاق يرضي الأطراف، وحتماً ورقي الرقم.
بهذا البديل البسيط، وبلغة ارتفعت ولم تعد عيباً اجتماعياً في أبسط الأمر، إلى كونها بيعاً للقانون في حقيقته، حلت الرشوة مكان القانون.
*يشتكي المواطنون من رئيس المجلس البلدي إلى المحافظة، هذا بعد أن أعياهم اللهاث وراء استرضائه واستعطافه، ومخاطبته بالقانون الذي داس عليه، إلا أن المحافظة لم تحرك ساكناً بعد أن ظن المشتكون أنهم وصلوا إلى من سيرفع عنهم الظلم، أو بالحد الأدنى يقف في وجه ذاك النمرود.
النمرود ببعض العلاقة مع بعض المفاصل صاحبة القرار، يدفع ثمن فواتير الغداء في واحات دمشق، والقرية الدمشقية، وببعض الهواتف ذات الأرقام المحجوبة عن الظهور، يصير النمرود مصلحاً، والمواطنون متآمرين، ومصلحة الوطن تقتضي بقاءه.
*سوبر ماركت الحي ودكانه، البضائع المهربة، والبطاطا التي صارت حلماً وطنياً، من الضروري أن يلتقي بهم المواطن، يطلب صاحب الدكان، والسوبر ماركت أسعاراً غير متخيلة، المواطن الذي شاهد برنامج (يوم جديد) في التلفزيون السوري، وقرأ عليه (هاني الملاذي) نشرة التموين، يعتقد أن غشاً وقع عليه، وبما أن وزارة الاقتصاد تهيب بالمواطنين الاتصال على أرقامها لمعاقبة مستغلي لقمة الشعب والمحتكرين وضعاف النفوس، وبما أنه من الشعب، يهز برأسه لصاحب الدكان والسوبر ماركت، ويتصل، تأتي دورية التموين، تخرج من الدكان والسوبر ماركت مملوءة الأكياس، فيلوي المواطن رأسه تحية للقانون.
الوحل
برحابة صدر، ونفس راضية، وشكر لله على نعمة المطر، القاطنون أي المواطنون في منطقة الحسينية بريف دمشق والحائرة بانتمائها للقنيطرة أم للريف، يلبسون الأكياس السوداء والبيضاء والملونة، ليجتازوا الطرقات الوحلية التي لم يقتنع أحد من المحافظتين سابقتي الذكر بضرورة أن يحولوها للبشر.
البقية التي ليس في استطاعتها تموين الأكياس مثل المكدوس والزيتون، شمرت عن سيقانها السمراء وسارت في بحر الطين غير آبهة.
*ليس في سورية، أكاد أجزم، شارع بلا حفرة أو مطب، وفي كل الأرياف السورية شوارع مرقعة بزفت قديم وآخر جديد، هابطة أحياناً ومرتفعة أحياناً أخرى، والسيارات الحديثة (خصوصاً الصينية منها) تقضي أوقاتها عند الدوزنجي أو الميكانيكي وأصحابها يقولون: رزق ساقه الله لهؤلاء، وإلا كيف سيعيش الميكانيكي وسواه.
* الصورة المنشورة هي في قلب دمشق، وقبل بدء احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية، يوم ماطر فحسب، أقل من شهر وستبدأ الاحتفالية المنتظرة، الحل البديل عن الغوص في المستنقع، رصف ما تبقى من البلوك المتناثر بعد أن أنهت الورشة عملها وصنع جسر للعبور... البديل دائم الوجود.
البنوك
لا يثق أغلبنا بالبنوك، وهذا يعود لأسباب كثيرة، هي حدث طارئ في حياتنا، فمن أين لنا بالفائض الذي يمكن أن نوفره كرصيد بنكي؟ من الممكن لو كان هناك بنوك تودع ديوننا، ومن الأسباب أيضاً هي عدم الثقة بمؤسسات الحكومة، وسبب آخر يعود لتحريم الفائدة.
البعض ممن هُيئ له جمع بعض الليرات، نام عليها، أو شغّلها في مشروع بدائي، أو دسها في وسادته ريثما يأتي الوقت المناسب، وفعلاً جاء، أو بالأحرى جيء به، ظهر في سورية بديل يسمى (جامعي الأموال)، وطارت (المطمورة) وخرج بعضهم من السجن، والبقية تنتظر.
*طور السوريون الوسائل وابتكروها، فالأجور لا تبني بيتاً ولا(قناً)، ولا تزوج شاباً، ولا ثمن عملية جراحية، ولا حتى أجرة ولادة في مشفى متواضع، البديل إيجابي هذه المرة، اخترعوا الجمعيات، ويُعتقد أن أول من ابتكرها كانت امرأة.
* ربع سرفيس، نصف محل، ضمانة يمكن أن تكون أكثر من بنك، حكومياً كان أم خاصاً، كما أن الله يطرح بها البركة كونها غير ملوثة بالربا، ولكن الناس ليس في يدها الكثير من النقود لتشتري، وربع السرفيس يذهب جزء منه للتصليح ودفع المخالفات، والترسيم، والرشاوى يبدو أنها مشاريع بائسة وليست طاهرة وتشوبها الرشوة.
*نعيش أزمة مادية، ليس في قلة الدخل فحسب، إنما في عملية استثماره، الأهم ماذا ندفع للحصول عليه، الفقر جلب لنا ، الجريمة، السرقة، الاختلاس، الدعارة في أرخص أنواعها.
دخل جديد
في سؤالك لمجموع البسطات التي صارت تشكل أكبر من ظاهرة في دمشق، لتصل إلى شكل اقتصادي تخصصت به دمشق عن سواها، لا رصيف تستطيع العبور عليه، كل ماتريده مفروش على الأرض، ففي سؤالك لأصحابها تصاب بالدهشة. الأغلبية ليست عاطلة عن العمل، من بائع اليانصيب الذي يقف أمام جامع الرازي وصولاً إلى بائع الحلويات المفرقة بسيارة (الهوندا)، فلديه محل لكن موقعه غير مناسب، وهنا في البرامكة الأمور جيدة.
استطعنا ببساطة أن نخلق البديل في عقلنا السوري، فالدخل المحدود بجهد لا محدود يعينك على الحياة.
* أبو حيدر متقاعد يقول: تقاعدي قديم لا يتجاور 6 آلاف ليرة سورية، أبنائي تزوجوا وبقيت أنا وزوجتي وابنتي الصغرى، وهذا لا يكفي، وأبنائي بالكاد يعيشون ولم أعتد مد يدي لأحد، هذا العمل (يشير إلى أوراق اليانصيب) يؤمن لي بعض المال الذي أحتاجه دون مساعدة أحد.
*امرأة في الخمسين تبيع الدخان المهرب، تفترش الرصيف، ليست وحدها، توجد مجوعة من النسوة.. لماذا تبيعين الدخان المهرب؟ تطرق المرأة بأسى: لأنه الطريقة الأنظف لجمع المال بالنسبة لامرأة.
إذاً... لم تختر المرأة الخمسينية الوسيلة الأسرع لجمع المال، بديلها أكثر صعوبة، لكنه أقل إيلاماً، وهنا تبدو الخيارات أوسع حتى حين التنازل.
دروس خصوصية
أسقطت الليرات هامة الرسول (المعلم)، ولم تعد (قم للمعلم ) سوى من الذكريات الجميلة عن معلمي أيام زمان، يترك المعلم (تركي) تلاميذه ليعمل كعامل مساعد (طيان) في ورشة قريبه (أبو بسام)، وهذا كان يتم أثناء العام الدراسي.
الأستاذ (منصور) يعمل في العطلة، أو بعد الدوام الرسمي، كومبارساً في منطقة يعفور أو كفر قوق حيث الأستديوهات الفنية، وتنتج أغلب الشركات تصوير الأعمال الفنية، في اليوم 30 ل.س.
* زهير خريج قسم اللغة العربية، يدرس التلاميذ في منزله، لا يتقاضى أجراً كبيراً، الجلسة الواحدة 200 ل.س.
*النموذج السلبي عن زهير هو الأغلب، معظم الأساتذة يطالبون الطلاب بمجهود أكبر للتحصيل العلمي، وبذلك يدفعونهم، إما للدروس الخصوصية، والطريق الآخر الدورات المركزة، في العام الدراسي، وفي العطلات.
*هذا ينسحب على كافة المراحل الدراسية من الابتدائية، وصولاً إلى التعليم العالي، وفي الأخير البدائل أكثر اتساعاً، وشهدت جامعة دمشق طرد العديد من الأساتذة لأسباب أخلاقية كالرشوة وسواها.
البديل هنا أخطر، لأنه يمس أقدس المهن، ومن أكثرها أثراً في المجتمع.
أختام
من ختم المختار على شهادة (حسن السلوك) وسند الإقامة، وصولاً إلى الأختام الكبيرة غالية الثمن، كل له ثمنه، الموظف الذي لا يكفيه دخله، يسوق المواطن يومياً إلى دائرته من أجل الختم المقدس، وبالتالي سيدفع ثمن الختم بدلاً من الذهاب والإياب دون نتيجة، وهكذا استطاع الموظف استثمار ختمه بإعطائه هالة غير حقيقية.
*يحمل مختار الحي الذي يعمل في الزراعة خاتمه إلى مزرعته، المراجعون يأتون إليه في أي وقت، 25-50 ليرة دون أن يتأكد من معرفة الشخص.
* الكاتب بالعدل يأتي إلى بيتك متى شئت، يحمل أوراقه وأختامه، يجري المعاملة كما في مكتبه، 1000-1500 ليرة دون أن تحضر إلى المحكمة.
* الشيخ (ع.ز) يزوج ويطلق، يحلل ويفتي، يعيد المطلقة بفتوى، في ربع ساعة وعلى نية التوفيق، يتعشى، يأخذ الإكرامية 1000-1500 ليرة.
النهايات
كانت البدائل السورية تعويضاً قاصراً عن غياب التدخل الحكومي في الأزمات، تركتنا في المواجهة وحدنا فاجترحنا الحلول الخاطئة، ولكن بنوايا حسنة، ثم اقتادتنا النوايا الحسنة في الظرف السيئ إلى ما نحن فيه.
لم نعد نستطيع الحكم على السلبيات دون أن نقول: ولكن... الأستاذ الذي يعطي تلاميذه دروساً خصوصية نبرر له بالحاجة، الموظف الذي (يشلف) المواطن في كل اتجاه نبرر له بالدخل المحدود، سائق التاكسي الذي لا يشغل العداد نقول: الله يسامحه، يدفع مخالفات كثيرة والبنزين ارتفع سعره.
البدائل السورية جعلتنا أساتذة بالتبرير للخطأ.. بدائلنا أخطاؤنا التي ستقودنا إلى الخراب.