مطبّات الوطن في قرطاس

العبارة التي أعتبرها ذات شأن في ورطتي الأبدية بالصحافة ودخولي هذا العالم المفخخ تارة بالمواقف الحقيقية وأخرى بالترهات، هي لكاتب ألماني تقول: «من يعمل في مهنة الصحافة يقضي النصف الأول من حياته في البحث عمّا يجهل، والنصف الثاني في السكوت عمّا يعرف».
حينها كانت الصحافة حلماً خرافياً، وقراراً لم يوافقني عليه أحد من أسرتي، والمقربون مني، كونهم على ثقة بالمزاج الانتحاري الذي أتحلى به، ولقناعتي حينها أن الصحافة هي العين التي ترصد الأخطاء فقط، وأنها تمتلك القوة على التغيير، وكانوا يضحكون من سذاجة ماأعتقد.

ببساطة اتخذت القرار الأخطر في حياتي، وسجلت في قسم الإعلام بجامعة دمشق، وبدأت القناعات البكر بالسقوط من الدرس الأول عن تاريخ الصحافة العالمية، وجغرافية الوطن العربي، والعلاقات العامة، والمدرج السابع البارد، وقهوة (أبو سعيد)، والأساتذة الذين لم يكتبوا مقالاً في حياتهم.. سوى نكات (فؤاد حميرة) وبعض الإناث الجميلات ساهمن في سد الفراغ.
في جامعة دمشق، وفي هذه الفترة، نهاية الثمانينات، سقط الشعر، الشعراء، الطبقة الوسطى، الفقراء أمام علبة السمنة والمحارم الورقية، الأحلام الوردية عن الصحافة الخاصة وقانون مطبوعات جديد، وبدأت الجنوبات العربية بالسقوط من جنوب لبنان إلى جنوبي العراق والسودان، وبكى (محمد عارف السعيد) كثيراً.
خرجنا بعدها مرهقين بالحلم، مشغوفين بشعر محمود درويش والموت القسري لرياض الصالح الحسين و(هيلين) نزيه أبو عفش ووصايا فايز خضور(آداد)، وصياح مظفر النواب، وبعض ماعلق في الذاكرة عن الكتابة الصحفية، الإعلان، والدهشة من مقرر الإحصاء.
في الواقع الإعلامي كانت صحف القطاع الخاص في أغلبها مستوردة، من لبنان وأثينا وقبرص، صحافة للكسب المادي، متواضعة، بلا خبرات، والأدهى أنها تعمل على مبدأ الجباية القسرية، صحافة للمناسبات والتهاني، واللقاءات المأجورة، أحد أهم أقطاب الإعلان وقتها كان يملك مكتباً في (المجتهد)، ومسدساً وزجاجة ويسكي، وأربع فتيات يجبن النوادي الليلية بحثاً عن مطرب مغمور (مخمور) يصطدنه بإعلان سريع، وفي النهار يبحثن عن رئيس بلدية مغفل، يتحدث عن إنجازاته في تعبيد طريق، ويأخذن له صورة عفوية أمام البلدية، لتصل إلى المحافظ الذي سيهنئه ويمدد له ولايته مقابل مبلغ بسيط (20) ألف ليرة للصفحة الداخلية غير الملونة... هكذا كانت الصحافة الخاصة، أما العامة، فكانت وماتزال 3 صحف متشابهة، متعاضدة، تشعر حين تصفحها بخمس دقائق، أنك في عالم سحري من خيال.
طويت هذه المرحلة، وجاءت المرحلة الملونة، ظهرت صحف مشاغبة، وأخرى عادية وفق النموذج السابق ولكن مع بعض الذكاء والخبرة، سحبت تراخيص، وتنوعت العناوين، وتحقق جزء يسير مما كنا قد حلمنا به،
مادة مشاغبة، وجملة رشيقة، ومفردة ليست خشبية، مع الاعتراف بكثير من الهلام الدخيل، وأنصاف الصحفيين، والمثقفين، والنواعم اللواتي يرين فيها حالة مخملية، والمرتزقة الذين يحمون صغار المفسدين بقليل من النقود، وقناصي الفرص، والمعارضة للشهرة، ولكن مع ذلك صار من الممكن القول إن في بلدنا تجربة أو اثنتين ناجحتين، لكنهما تحاولان الحفاظ على استمرارهما بقليل من الخشية، والحرية.
لكن الخشية الكبرى تأتي من عدم فهم البعض في المناصب التنفيذية للدور الهام الذي تقوم به الصحافة الوطنية في الدفاع عن الوطن، ولقمة أبنائه، والإنجازات التي تبدو قليلة بعض الشيء لكنها ضرورية، فالصحافة التي تحارب رفع الدعم عن أساسيات المواطن ليست عميلة أو مرتهنة لأحد، والتي تصطاد الفاسدين وإن كانوا يملكون الحصانة هي وطنية بجدارة، ومن المعيب منع صحيفة من الصدور أو تأخير صدورها، أو الإفراج عنها لأنها تناولت موضوعاً يمس محافظاً أو وزيراً، فلقد أثبتت الصحافة السورية على ضعف خبرتها، وسنوات نشوتها القليلة أنها ليست غبية، أو مضللة، وأثبت الصحفيون أنهم على قدر المسؤولية الوطنية والإحساس العالي بمايمر به الوطن وبمايحاك ضده من مؤامرات، رغم قلة مافي اليد، وفقر الحال، وعظيم الإغراءات.
وإلى الذين يقولون بعدم نشر الغسيل الوسخ، لأن هناك من يحاول الصيد بالماء العكر.. في كل الأرض يوجد الفاسدون، الانتهازيون، السفلة، ومهمة الصحافة الخالدة أن تعري آثامهم خصوصاً في الظرف والموقف الحرج، فالتماسك الداخلي يعني الصلابة الداخلية الخالية من اليد الملوثة بهدر المال العام والتغني بالوطن الذي يحقق مصالحهم الوضيعة..
رفقاً بالصحافة فهي الوطن في قرطاس.