مطبّات خذلان

كتب سعد الله ونوس في العام 1967 مسرحية حفلة سمر من أجل 5 حزيران، وانتظر على نار ردة الفعل التي سيخرج فيها الجمهور بعد العرض، بعد أن حمًل مقولة العمل اتهاماً واضحاً للسلطات العربية بالمسؤولية عن الهزيمة... صفق الجمهور للعرض طويلاً، وتبادل المثقفون منهم الآراء حول العرض، وفهم أغلبهم الرسالة، وحيوا شجاعة ونوس في عدم المواربة، وتأبطوا أكواع نسائهم.. خارجين.

جاء رد فعل ونوس صارخاً، كتب (الفيل يا ملك الزمان)، وعاد مع بطله (زكريا) ليضيف إلى قائمة الأسباب التي قادت إلى الهزيمة سبباً جديداً: هناك من يتواطأ على ذاته بالثرثرة والتمييع!!

الفيل الذي قتل، وكسر، وداس، أفزع.. ببساطة طالب زكريا بزوجة تخرجه من عزلته، لا كما اتفق مع أهل القرية وخذلوه.. طرد الفيل.

أراد زكريا المخذول، فيلاً لكل واحد من أولئك المتخاذلين، يدوسه، يقتل ابنه، يكسر شجرته الوحيدة، يرعبه.

كم زكريا فينا؟

المواطن الذي تكتب عن الظلم المحيق به، يقرأ ظلامته، ويبكي، ويحيّ فيك شجاعتك، ثم يطوي الجريدة، ويحلم بالحق، هذا إذا لم يكن مصيرها ممسحة لنافذة، أو فراشاً وضيعاً لطعامه.

الجريدة التي تأكل منها، وتعيل بعض لحمك، تطالبك بالكتابة عن الفساد، الفاسدين، المرتشين، هدر المال العام، تلم وثائق الإدانة، ينتابك الشعور الغامر بالنصر، لقد أوقعت به.. العدد القادم من الجريدة، الصفحة الأخيرة (مدير المؤسسة الناجح)، إعلان عن مؤسسة الفاسد الذي ظننت أنك نلت منه!!

زميلك في (الكار)، أيام طويلة في الدراسة، الحلم، الدفاع عن الظلم الذي شربناه مع الذين شربوا، الكتب الحمراء والبيضاء والخضراء، الشعر، صوت فيروز الباكر، حب أمل دنقل في (لا تصالح)، محمود درويش في (مديح الظل العالي)، وغناء مارسيل خليفة، والازدحام العفوي لحضور أمسية لمظفر النواب، وسماع السباب الممنوع... فجأة دزينة من علب المحارم، مجموعة من المنظفات، والكتابة عن رواد الصناعة الوطنية.

المسؤول الصديق النظيف، لا رشوة، لا يد تمتد لقسيمة بنزين، لا موظفة تعين لجمالها، أو لأجل صديق مسؤول، اليد البيضاء، الخطابات الرنانة عن الإخلاص، العمل هو الرهان، أحيل موظفه الذي ظن أن الشعارات أفعال للتحقيق.. المسؤول الصديق النظيف.. يد على العين، أخرى على الفم، وثالثة على الأذن.

الشيخ (المسؤول)، في خطبة الجمعة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الزكاة ضرورة لحماية الفقير، الصوم هو حفظ اللسان وليس الجوع، الصبر مفتاح الفرج.. في الصباح الجريدة الرسمية تقول: أحيل إلى القضاء.

كل هذا الخذلان، أورثنا السير جانب الجدار، العين لا تقاوم المخرز، البساط المصنوع على (قدنا)، تقبيل اليد الغليظة، الضحك على اللحى، السلبية حتى في نهر من يبول في ظل جدار منهار.

قادنا كالعميان دون عصي، كالروبوتات، مصابون ببطولات الزير الوهمية، ومأخوذون بالسيرة الهلالية، ونصدق ذبح حاتم لفرسه الوحيد، وببعد نظر زرقاء اليمامة، وجمال ليلى القاتل رغم أننا لم نشاهد مواطناً واحداً مات من العشق، من الجائز جوعاً.

يخذلنا، الذي ينتظر السرفيس لساعة دون آخ واحدة، من يصمت عندما لا يعيد السائق له ليرتين دون أن يعترض، يمتعض، يتذمر، المتدافعون على أبواب الكازيات دون أن يتساءلوا لماذا؟

الذين لا يحفظون كلمات النشيد الوطني، ويدفعون الآلاف لحضور حفلة لعمرو دياب، ولم يسمعوا بالخرائب التي يسكنها الفقراء، ولم يمشوا يوماً تحت المطر، ولم يلتحفوا ظهور بعضهم في الشتاء.

لتاريخه يروي (أبو شادي) في مقهى النوفرة، السير المخذولة في ذاكرتنا الموهومة، ويضرب أمام السواح بسيفه غطاء الأرجيلة، وبصوته المفاجئ، يثير شيئاً واحداً لديهم... الضحك.

لتاريخه، الرواد أنفسهم، للسّيَر نفسها، الوجوه الضاحكة نفسها، والمبهورة، التاريخ نفسه الذي سيرويه أحدهم.. لأبنائنا فيما بعد..