أرضنا السَّوداء...

الكتابة عن مشكلة الصرف الصحي في سورية تشبه إلى حد كبير محاولة زرع الألم في جثة متعفنة، هذا إذا أردنا أصلاحاً، لكننا نكتب بلا أمل عسى أن يكون في إثارة الرعب والفزع حول قضية صارت تثير أكثر من ذلك.

لاتسلم مدينة في سورية من وجع الكارثة، ولا ريف إلا وينتظر المياه السوداء لتغرق أرضه دون هوادة، ويذهب رزقها إلى أفواه أبنائنا أيضاً دون هوادة.

لكن أكبر الهم في دمشق وريفها، حيث الزحام وفوضى السكن العشوائي، ونفايات المصانع والمعامل، ومخلفات المشافي، في دورة تلوث حولت الرئة التي تتنفس منها المدينة إلى كومة من السواد الذي يبشر بمواسم للموت القادم مما نأكل ونشرب، مع انخفاض منسوبات المياه الجوفية، واستنزاف مرعب لحوضي بردى والأعوج.

محطّة وحيدة

للدفاع عن الغوطة من خطر التحول إلى يباس، ودمشق إلى بقعة تلوث خالصة، بدأت الجهات المختصة مشروعاً للمعالجة، يتمثل في محطة وحيدة هي محطة عدرا، ولكن ماذا يمكن لهذه المحطة أن تفعله خارج حدود طاقتها لمعالجة الصرف الصحي ومخلفات المشافي والدباغات فيما مضى والسيل المخيف الذي ترسله دمشق وحدها، إذ يقدر حجم ما ترسله 750 ألف لتر مكعب من مياه الصرف الصحي، بينما لا تستطيع المحطة معالجة أكثر من 350 ألف لتر مكعب، لذلك عمدت الحكومة حسب تصريحاتها إلى عقد اتفاق سوري ماليزي لإقامة 23 محطة لمعالجة الصرف الصحي، و15 محطة لتنقية المياه من النتريت في ريف دمشق كونه من أكثر المواد الملوثة، وبتكلفة 4 مليارات ليرة سورية، في فترة إنجاز مدتها 39 شهرأ، لكن يبقى التساؤل المشروع ، كم سيموت منا، يمرض، يهاجر، ريثما يتم المشروع، هل سنبقى على قيد الحياة نحن وغوطتنا إذا تعطل هذا المشروع، هل من الممكن أن نشهد يوماً نستطيع أن نشرب فيه من أي سبيل نشاء؟

بردى الأسود

لماذا صار بردى أسود، لماذا أصبح مصدر موت بعد أن كان رمزاً لحياة دمشق وأهلها، وينبوع خصب ينعش الغوطة، ويثير فيها الاخضرار؟

في الأسباب إنه التلوث، من أين يأتي؟

تلوث كيميائي بسبب رمي المخلفات الصناعية قبل معالجتها في المجاري العامة، مما يؤدي إلى التلوث بالمعادن الثقيلة مثل الكروم والرصاص والزرنيخ...الخ.

التلوث الآخر هو التلوث بالمبيدات الحشرية الناتجة عن الاستخدام العشوائي لهذه الأسمدة والمبيدات على نطاق واسع في العمل الزراعي، وجهل الفلاح بطرق استخدامها، وإهمال الجهات المتخصصة في مراقبة طرق الاستثمار لهذه المواد.

من أشكال التلوث الأخرى مياه الصرف الصحي، ويعود هذا التلوث الحيوي إلى التجمعات العشوائية ومخالفات البناء، وعدم تخديمها بشبكات الصرف الصحي مما يؤثر على المخزون الجوفي، والمسيلات المائية وإن قلت، وما ترسله من جراثيم وفيروسات مسببة جوائح وبائية ومرضية وإسهالات، والخشية من رشفة ماء.د

ولكن من المسؤول عما وصلنا إليه، أليس هو الإنسان مسؤولاً كان أم مواطناً(فلاحاً)، مسؤولاً في تجاهله، ومواطناً في جهله وطمعه.

المياه الجوفيّة

إن الاستخدام الجائر والخاطئ للأسمدة الآزوتية من المسببات الأساسية لتلوث مياه الشرب، سواء تلك الواقعة في حوض بردى (كمخزون)، أو ماء النهر، الذي يعاني ما يعانيه من ضحالة المواسم المطرية المتتالية.

كذلك لا تخلو آبار الغوطة من التلوث بماء الصرف الصحي نتيجة لأغلب العوامل التي ذكرت إضافة إلى ارتفاع نسبة التلوث بالنترات عن الحدود الطبيعية المسموح بها بالمواصفة السورية، فهي في أغلبها تجاوزت 50ملغ/ل.

أما بردى وبالعودة إلى مسؤولية الإنسان فيما يحصل، من عدم وجود محطات للمعالجة، خاصة تلك التي تنتجها المصانع والمعامل، ومخلفات الأدوية، وعدم وجود شبكات الصرف الصحي النظامية، والمنفذة دون أن تسمح للسائل الخطر بالتسرب، كذلك ترك بؤر للتلوث في الغوطة(معامل الاسمنت، البطاريات، الرخام)، التي تؤثر مباشرة في تلوث المياه الجوفية.

معامل الرّخام

نعم جف بردى على طول الموسم، لم يتبق من النهر سوى بضع شهقات للموت، أو محاولة التعبير عن النهاية البائسة لنهر يحتضر.

ما زاد في ألم المحتضر أن المحيطين زادوا من موته أو سرعوا به بإبرة أو حقنة الرحمة، على طول النهر تتوضع مئات المعامل التي تصب طمي رخامها في جوف النهر، ضاربة عرض الحائط بالمكان الذي تتواجد به كونها مخالفة، وأيضاً تخالف في شروط عماها، فلا حفر فنية لترسيب المخلفات، بل وتعتمد على مياه النهر كأحد مستنزفي الحوض الذاهب إلى التلاشي.

الكارثة الكبرى في وجود هذه المعامل الكارثية، تتلخص في كون الفلاحين - الممنوعين من حفر الآبار لعدم استنزاف الحوض، ومواسم الجفاف، وبردى المتداعي- صاروا يعتمدون على المياه البيضاء التي تنتجها هذه المعامل لسقاية مزروعاتهم، مما خلق أرضاَ بيضاء قاسية نتيجة لترسب الطمي المترسب، وهذا ما أدى إلى تسمم التربة، ورسم خارطة خراب باللون الأبيض.

البلوك

مأساة أخرى لا تقل خطورة عما يجري في الغوطة الشرقية، حيث تنتشر معامل البلوك بين الأشجار في ظاهرة استفزازية للعين، وللقلب، للعين حيث المنظر المشوه لجمال المكان، وللقلب لما يخلفه وجودها على الأرض.

الحرارة التي يسببها الاسمنت ومكنات التصنيع على الأشجار والمنتجات الزراعية الصغيرة، منتجات الموسم الصيفي والشتوي، وعلى الأشجار المثمرة التي تشتهر بها الغوطة، وعلى رأسها المشمش.

بطاريّات السيّارات

أيضاً مواد سامة لا ترحم، هذه المرة ضربت السلطات المختصة بعرض الحائط بالخبر الذي نشرته صحيفة محلية عن تسمم الأراضي الواقعة في الغوطة وتحديداً في قرية( دير سلمان)، حيث يتواجد أحد معامل البطاريات الكيماوية، التي تعتمد على الأسيد، إذ يقوم العمال بإلقاء البطاريات منتهية الصلاحية على الأرض بين البساتين، مما يؤدي لتلوث التربة والمياه.

الرّئة المختنقة

الغوطة الغربية، الوجه الآخر لريف دمشق، الرئة الأخرى لدمشق ذاهبة إلى فصل جديد من التلوث، في قطنا حيث المياه المنبعثة من جبل الشيخ، من ثلجه بالتحديد، يشرب الناس ماءً يقال أنه إن لم يكن يعادل، أفضل من مياه عين الفيجة ذائعة الصيت.

في السنتين الأخيرتين بدأت الأزمة مع جائحة اسهالات أصابت مئات الأطفال، حتى أن بعض الأسر أصيبت بالكامل، السبب أعاده الأطباء إلى وجود عامل واحد أدى إليها وهو الماء.

القصة الثانية وهي منذ شهرين أكثر من ألف إصابة بالتهاب الكبد الانتاني، والعامل الذي أكده الأطباء وتحاليل المياه التي أجرتها مؤسسة مياه الشرب، الماء..الماء.

في الأسباب، الصرف الصحي، لماذا وكيف، لقد تم في السنوات الأخيرة وبسبب الإهمال في قمع المخالفات وتفشيها في أطراف المدينة، وخصوصاً التجمع الذي شيد على منابع المياه وغير المخدم بشبكة للصرف الصحي، وقيام المواطنين باستعمال الحفر الفنية لتجمع المخلفات الآسنة، أدى ذلك إلى رشح هذه المياه إلى النبع وبالتالي تلوث المياه وانتشار الوباء.

مخالفات البناء

قد يستغرب البعض أن تكون مخالفات البناء هي من عوامل التلوث، فهي كونها عشوائية وتشكل تلوثاً بصرياً محضاً، تساهم في التلوث البيئي، فكلها تقع في الأراضي الزراعية، وهذا اقتطاع لهذه المساحات التي من المفترض أن تكون خضراء.

المشكلة الأهم أن كل هذه المساكن تقع خارج المخططات التنظيمية وبالتالي لا يمكن تخديمها من الوحدات الإدارية.

والمشكلة الأخرى في اجتهاد بعض المواطنين بتنفيذ شبكات دون مواصفات هندسية، وبطرق بدائية، وهذا ما يؤدي لتسرب الصرف الصحي وتكسير المجارير، وبالتالي تلوث التربة على خطوط الصرف العشوائي.

البديل الآخر وهو الحفر الفنية التي ستغرق برشح السوائل القاتلة الأراضي الزراعية وبالتالي تحويلها في زمن قصير إلى أرض غير صالحة للحياة.

وهنا يساهم المنتفعون من وجود هذه المخالفات عبر الرشى وعدم تنفيذ القوانين التي تمنع السكن المخالف، ويتضرر الوطن مقابل انتفاع هذه الثلة الفاسدة، ونصبح بعد وقت ليس بالبعيد تحت رحمة مخلفاتنا وفسادهم.

رائحة الموت

من المليحة وصولاً إلى ما كانت تعرف ببحيرة (العتيبة)، الأماكن الخالية لخطوات بردى المفقودة، رائحة تزكم القلب قبل الأنف، ولون أسود يفرش عفونته بالسواقي القديمة.

تلك الأمكنة التي كان بردى يخترقها، كانت ذات يوم سياجاً للورد الجوري والورود الشامية، رائحة البنفسج، الزيزفون، والمصطافون الذين يفترشون البساتين، الأكلات الشامية، الربيع الذي كان عرساً يومياً في دمشق، استحال إلى خراب فظيع.

لم يبق سوى بعض الاستثمارات التي ساهمت في سرقة المنسوب المائي، وقد فرضت الدولة عليهم شروطاً لم يتقيد بعضهم بها، المسابح على طول شريط بردى الخائر، طلب منهم تركيب أجهزة لتكرير المياه، أي جعلها نظيفة دون إعادة ملئها من الآبار.

تلوّث روحي

من أوله، إلى أوسطه، آخره، بردى نهر لممارسة السياحة، تحول فيما بعد فسحة لمرتادي الملاهي والكازينوهات، والسهر حتى الصباح على إيقاع مطربي الدرجة العاشرة وراقصاتهم.

في الغوطة، المشكلة أنها أكثر وحشية، تعج الطرق الشجرية الضيقة بالمخمورين، العاهرات، ونساء الليلة الواحدة.

جرائم قتل، مشاجرات، الأهم من ذلك حوادث السير، لا تتفاجأ إذا صادفت مخموراً  يقود سيارته في عرض الطريق، أو يسير بسرعة جنونية، أو ميتاً بعد اصطدامه بشجرة معمرة.

أما رواد هذه الأماكن، أبناء المنطقة من الفلاحين الذين باعوا محصولهم ويصرفونه في سهرتين، بعض فاسدي القطاع العام الذين يمارسون بقاءهم في الأماكن البعيدة عن الأنظار هكذا يعتقدون، أو أصحاب السوابق وهم الأكثرية.

ومن كماليات هذه الملاهي ما يساهم في الاستنزاف والتلوث الذي تعانيه الغوطة، في جانب كل ملهى مغسل وتغيير زيت سيارات، المغسل بالمياه التي يحتاجها وبكميات كبيرة ونظيفة، ومحل تغيير زيوت السيارات بمخلفاته البترولية يساهم في التلوث المرعب.

نداء استغاثة

قد لا تفيد، لكنها قد تبقي بعض أبنائنا على قيد الحياة دون سموم في أفواههم، ودون لعنات تنصب علينا، نحن الذين لم ندافع عن طهرانية البساتين والمياه.

الغوطة بشطريها الشرقي والغربي ذاهبة إلى موت محتم، قد نحلم بسبب ذلك ذات يوم بشجرة نستظل بها، أو بساقية نترك أقدامنا في مائها عند التعب، أو نبع نغرف فيه بأكفنا جرعة ماء.

 يا من أنتم في سدة القرار أنقذوا ما تبقى من اللون الأخضر في بلدي، ولا تدعوا الأسود يلون الدروب التي طالما قلنا في ظلال أشجارها همسة حب لامرأة.