التلوث في سورية.. بؤسنا القادم من مائنا وهوائنا وأرضنا

مازالت أمي تشم جرزة البقدونس عند شرائها من جارنا السمان (أبو سليمان)، لكنها صارت ترمي بها جانباً..
يستدرك السمان أنها مسقية بمياه نظيفة.. العجوز التي تعرف رائحة الأشياء الحقيقية لا تنطلي عليها شطارة (أبو سليمان)، فهي تعرف جيداً رائحة النعنع والفجل والبقدونس، وحتى التراب.
أما نحن.. نحن الذين عشنا زمن صنابير دمشق المفتوحة ليل نهار كسبيل للعطاشى، ولم نعد نشعر بالمذاق نفسه وتلك النكهة لطعام أمهاتنا.. نحن الذي تغير.. نحن، أم أن هناك من سرق تلك الرائحة والطعم، ودس فيها شيئاً غريباً.. وترى من قطع الماء عن السبيل في جادة الحلبوني ومدخل المتحف الحربي حين كان العطش يشقق حناجرنا؟؟

هكذا بكل بساطة دبت حياة جديدة.. ملوثة، ليست حياتنا، في أكلنا وشربنا وأنوفنا، لم يعد (النعنع) برائحته يدب الصحو بالمصابين بدوار النقل، وصار بالإمكان أن تشاهد بائع الماء ينادي (فيجة.. فيجة)، ليبيعنا ماءً مكفولاً من نبع (الفيجة) أو أحد ينابيع (جبل الشيخ) المتبقية، أما ما يتسرب من صنابيرها فبالكاد يصلح لغسيل الثياب أو جلي الصحون.. أما ماء الطعام والشراب فيشترى مع الخشية من الغش، مع دعواتنا أن (اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين).. ويخرج شيوخنا كل عام إلى المساجد مستغيثين باسطين أيديهم بالدعاء أن يكون هذا الموسم، موسم خير.. ولكن سنوات الجفاف تتوالى وتدس لأبنائنا الموت معتقدين أننا نساهم في نشأتهم.
رئة دمشق المتسرطنة
من المليحة إلى بحيرة (العتيبة) حيث كان المصب الأخير لبردى الذي كان.. تتابع بنظرك مجرى النهر الخالي.. وقبل أن تدخل (الغوطة)، رائحة مفزعة تهب وسيل جارف من (الصرف الصحي) يقطع الطريق عند مفرق (عربين)، ثم (بيت نايم)، المشروع الذي كلف عشرات الملايين من الليرات، لم تستطع محطات المعالجة والترسيب أن تفعل لهذا السيل المسموم شيئاًَ.. مع انحسار (بردى) وجفافه، صار هذا السيل بديلاً وحيداً للسقاية.. أرض سوداء، ومع وضع حراس لمنع المزارعين من السقاية منه، وفرض غرامات على مستخدميه إلا أن السقاية على قدم وساق فقد اتفق المزارعون مع حراس النهر المسموم على ضخ المياه الآسنة منه مقابل قدرٍ معلوم.
الفلاحون يتحسرون على أيام (بردى) ويتذكرونه بحنين حين كان يغمر بيوتهم وأراضيهم، لكنهم يريدون أن يعيشوا أيضاً، وعندما يأتي (بردى) وهم في الغوطة يأنثونه يقولون (تأتي بردى) يقتتلون على توزيعه.. وبعض القرى تشكو ظلم قرية أكبر منها.. ولكن لماذا السقاية بالصرف الصحي؟
(أبو أحمد.م) فلاح من المليحة يقول: «نحن أول من تصلنا بردى إن جاءت، ومع ذلك لم تعد تكفي، وهي إن (مشت) فشهر أو اثنين، لا تصل إلى حزيران وهي من كانت دائمة الجريان، وهنا نضطر لسقاية (القمح والخضروات)، فالمواسم المتتالية من الخسارة أوقعتنا في ديون هائلة، نحن نبيع (الحور) وصرنا نبيع من يحمي بساتيننا ويثبت ترتبها، لاسبيل آخر لدينا، ومياه الآبار قاربت على الجفاف، والدولة لاتسمح لنا بحفر آبار جديدة، لأن حوض (بردى) شارف على النفاد».
أما عن الخضار والمشمش والزيتون، فيقول (عبد الغني س) أحد سكان قرية النشابية: «نحن نشتري من البساتين المحيطة بنا، نذهب إلى (دوما)، ففيها بعض الماء، لانشتري حتى (المشمش)، أما الفول والملفوف والخس وخضار الصيف، فبعضنا يزرعها في بيته إذا كانت لديه قطعة أرض فارغة.. أو يأكلها على مضض».
أرض بيضاء ومياه حمراء
الطرف الآخر من الغوطة (عين ترما، كفر بطنا) وغيرها التي كان يرويها فرع آخر (لبردى) فَلَهُ قصة أخرى.. ففي (عين ترما) تجد مالم يمكن تصديقه.. الأرض البيضاء المزروعة، تذهب لتسأل عن السبب في هذا اللون المتفرد بهذا المكان.. على طول المجرى القديم (لبردى) جبال من الطمي الرخامي الأبيض.. مئات المعامل المنتشرة التي تعمل في قص الرخام تضخ (الطمي) مع الماء، مخالفة الشروط الصحية لعملها، هذا عدا أنها مخالفة لشروط توضعها، فلا حفر فنية لترسيب الطمي، ثم نقل خارج مجرى النهر.. أصحاب هذه المعامل غير المرخصة تم إنذارهم أكثر من مرة من بلدية (عين ترما) للإخلاء، لكن ما إن يتبلغوا الإنذارات حتى يهرعوا إلى من بيده القرار، فيتم إيقاف التنفيذ! أحد رؤساء البلديات السابقين سرب خبراً لجريدة ما، أن قراراً اتخذ من محافظ سابق لريف دمشق، تم إلغاؤه وإيقاف العمل به في صباح اليوم الثاني... والحسبة معروفة..
الفلاحون المطاردون من الجمعيات الفلاحية، والممنوعون من حفر الآبار لا يصل إليهم (بردى). ماذا يفعلون؟ على طرفي النهر ثمة أنابيب بلاستيكية ضخمة تنقل الماء الأبيض لتسقي الأراضي التي تحولت إلى كلس قاتل.
تدخل إلى بساتين (عين ترما).. ثمة تقاطع غريب بين لونين.. الأبيض الرخامي مع جلود ولون أحمر ورائحة تلقيك أرضاً.. رائحة مقززة. عند السؤال عن مصدر الجلود ورؤوس الأغنام.. (3) دباغات تمارس أعمال الدباغة، مع ماء أحمر لأصبغة الجلود السامة.. مفزع ما تراه، في غفلة مقصودة، في نوم مدفوع الثمن من رؤساء الوحدات الإدارية وحتى أعلى مسؤولي المحافظة، قصة موت بطيء لرئة (دمشق)، وسرطان يتسلل من أفواهنا رويداً.. رويداً.
بلوك ورصاص
(كفر بطنا) وقصص التسلل الإسمنتي لأرض خصبة، وفلاحون خاسرون لم تعد الأرض هي مصدر رزقهم.. مخالفات البناء المتسللة داخل البساتين، وأشجار تحمل في (تراكتورات) لتكون حطباً للشتاء.
معامل صناعة (البلوك) تحرق الأراضي الزراعية، وهنا القرارات واضحة والقانون واضح.. رغم ذلك تتغاضى البلديات والمسؤولون فيها عن الكم الكبير من الحرارة التي يصنعها الإسمنت بالأرض وبالشجر.. بين الأشجار أقيمت هذه المعامل القاتلة، ورغم الشكاوى لا أحد يسمع صوت الموت الذي تبثه هذه المعامل.
منذ أشهر نشرت إحدى الصحف الأسبوعية مقالاً موسعاً تم المرور عليه بعدم اهتمام كالعادة.. معامل لصناعة (البطاريات) للسيارات وغيرها.. مقامة في أرض قريبة من قرية تدعى (بزينة)، أدت حسب ما جاءت به الصحيفة إلى التلوث بمادة الرصاص.. وهي من المواد مرتفعة السمية والقاتلة.. فكيف إذا تلوثت التربة؟
في هذه الرئة (الغوطة)، يجري في الخفاء تسميم الأرض والإنسان.. وحتى الأراضي الزراعية تلوثت بالإسمنت بحجة بناء بيت للأسرة وفي الحقيقة يجري بيع هذه الأراضي.
في النشابية، على كتف (بردى)، شُيّدت عشرات البيوت المخالفة، ولكن المختلف هو كيف تمت عملية البناء؟ خيام وأطفال يركضون بينها، هذا ما يمكن أن تلمحه، ثم تعلو هذه الخيام فجأة، ويتوضع بجوارها (دش) وبعض الخراف تجوب بين الخيام، ثم بين ليلة وضحاها يتكشف المشهد عن بيت جميل مشادٍ بطريقة عصرية، ثم تنتزع الخيام ويصبح (الدش) على السطح والأولاد الصغار يلعبون والخراف تجوب الأزقة، مع العلم أن بلدية (النشابية) تبعد عن هذه المخالفات نحو (100) متر فقط.. فما الذي يحدث؟؟
الصرف الصحي مصدر رئيسي للتلوث في سورية
كل الدراسات ونتائج الحملات التي قامت بها وزارة الصحة والإسكان والري أكدت تلوث المياه السطحية والجوفية في سورية بمياه الصرف الصحي، سواء كانت صناعية أم منزلية.
بالعودة إلى (بردى)، فعلى سبيل المثال تجاوزت (الأمونيا) والـ(بي.أو.دي) للمعايير الحقيقية في أكثر من 80% من العينات، أي في أغلب مجرى النهر، كذلك الينابيع والمياه الجوفية في حوض (بردى)، فهي ملوثة جرثومياً بسبب الصرف الصحي، وتجاوزت تراكيز النترات في بعض آبار الغوطة النسب المسموح بها لمياه الشرب، وتحديداً من مادة (الكروم الثلاثي) ووصلت إلى (10) ملغ في اللتر الواحد في نهر (الداعياني)، وإلى حدود /10/ أضعاف القيمة المسموح بها في آبار (الزبلطاني).
كذلك لم تسلم ينابيع مثل (رأس النبع) في قطنا من التلوث، بسبب الإهمال بصيانة الصرف الصحي، وبناء (كازينو) على كتف النبع، ووجود أحياء المخالفات غير المخدمة بالصرف الصحي والتي اعتمدت على الحفر الفنية.
خارج الرئة
في العاصي تجاوزت قيم (الأمونيا) من الجزئيات المعلقة والـ(بي،أو،دي) لأغلب العينات المأخوذة الحدود والمعايير لمواصفات مياه الأنهار خصوصاً في الجزء الأسفل من النهر.
ـ في حلب، وفي نهر (الساجور)، فإن نوعية المياه سيئة جداً وتتجاوز تراكيز النترات والأمونيا والمعايير المعتمدة للأنهار في معظم أوقات السنة بسبب مياه المجاري والمياه الصناعية التي تصب في النهر دون معالجة.
-أما في المنطقة الساحلية، فقد بينت التحاليل لبعض الآبار السطحية المستخدمة كمصدر لمياه الشرب وجود تراكيز عالية من النترات والأمونيا بسبب التلوث بمياه الصرف الصحي واستخدام الأسمدة؛ كما ترتفع الملوحة في بعض مياه الآبار خصوصاً في منطقة (دمسرخو) نتيجة لتداخل البحر مع المياه العذبة.
في النتائج
هذه الأمثلة التي قدمت هي جزء من تلوث عام واحد لايتعلق بالتربة والمزروعات، أما الآثار والنتائج -رغم عدم وجود دراسات وطنية شاملة ودقيقة-فتوصلت إلى تحديد مناطق التلوث الرئيسية التي أصابها تلوث التربة:
1 ـ المناطق المحيطة بدمشق: تؤدي التربة الملوثة بمخلفات معامل صهر الرصاص والمعامل الأخرى (الدباغات) إلى تلوث المزروعات المستخدمة كغذاء، حيث تم كشف تراكيز عالية من الرصاص والكادميوم والكروم والزرنيخ في هذه المزروعات.
2 ـ المناطق المحيطة بحمص: يعتبر تلوث التربة الناجم عن مخلفات الصناعات الكيماوية (السماد الفوسفاتي) مشكلة كبيرة لأنَّه يحدث في منطقة حساسة بيئياً، حيث تؤدي نفوذية التربة إلى إمكانية تسرب الملوثات إلى المخزون الجوفي قليل العمق والمستخدم كمصدر لمياه الشرب.
3 ـ المناطق القريبة من حلب: نتائج التحاليل المقدمة عن فحص الخضروات المسقية بمياه نهر (قويق) الملوثة، أكدت وجود تراكيز عالية من (الزرنيخ) تتجاوز المسموح به.
كل هذا يؤكد أننا نتعرض لموت بطيء قادم مما نأكل.. في الأرض التي نلوثها ونقوم بزراعتها.. ومن الإهمال الحكومي والمجتمعي.. وليست الحكومة وحدها من يعرض هذه المصادر للتلوث، بل المواطن الذي يعتقد أن الأمر عارض وبيد الدولة وحدها.
 هواء أسود
مدينة عريقة، نظيفة.. ثم أكوام بشرية تمتد في إطار فقير، لاخدمات فيه، مجرد بشر يسكنون فقط ليناموا، ويتكاثروا، هذا ما حوّل دمشق إلى مدينة بسوار من المخالفات، والبيوت المتوضعة فوق بعضها في منظر بائس وفقير..
الصاعد إلى قمة جبل قاسيون يرى سحابة من الغبار والدخان الأسود تلف المدينة الأكبر في سورية، حتى الداخل إليها من الغرب يشاهد غمامة سوداء في استقباله، وهذا بسبب الزحام الذي فرضه عدم الدقة والعمل (الدقيق) في إدخال السيارات وتشغيلها، والتي تنفث سموماً في سماء دمشق، وقد قدرت مديرية النقل بدمشق عدد السيارات التي تدخل كعامل جديد لدمشق بـ/200 ـ 300/ سيارة جديدة يومياً..
أما المنطقة الساحلية عموماً ومدينة بانياس خصوصاً في محافظة طرطوس، فتعاني من ملوثات عديدة تهدد واقعها الأثري والتاريخي والإنساني، حيث تتوزع فيها منشآت اقتصادية ونفطية وكهربائية وجميعها من النوع الضار بيئياً، لأنها تنفث كميات كبيرة من هباب الفحم، وتتوزع شركات النفط (المصفاة، شركة نقل النفط) ومحطة توليد كهرباء بانياس ومعمل الإسمنت إضافة إلى الصرف الصحي ملوثة المياه والشواطئ.
وتحتل بانياس مرتبة متقدمة من حيث التلوث على مستوى مدن ساحل المتوسط، فحسب تقارير دولية وصلت النسبة إلى أكثر من /70%/، هذا عدا عن الأثر الصحي للمواطن، فقد كثرت الأمراض الصدرية والربو والأمراض التحسسية، والأخطر ارتفاع عدد الإصابات بالأمراض الخبيثة كالسرطان وكذلك أمراض القلب.
فعلى سبيل المثال، قرية (خربة سناسل) عدد سكانها لايزيد على /600/ نسمة، نسبة أمراض الأورام وصلت إلى /20/ حالة، كذلك أظهرت الدراسات تلوث مدن محيطة بالمصفاة بالغازات السامة، ولدى تحليل العينات من الهباب النازل على أسطحة المنازل تبين تلوثها بالمعادن الثقيلة: (الرصاص، الكادميوم، الزئبق) بدرجات مرتفعة.
 بالضربة القاضية
سقطنا بالضربة القاضية، اجتماعياً واقتصادياً، أسعار تعلو ولاأحد يقدر على وقفها.. أجور ضئيلة، فقر مدقع.. وسائط نقل من القرون الوسطى وشوارع بائسة.. قرارات متعجلة، وترحيل أزمات تديرها الحكومة، والأكثر من ذلك، تلوث هواؤنا وماؤنا وترابنا، وبتنا بانتظار الكارثة.. لابردى لدينا، فهو ينازع الموت.. والصرف الصحي يلون حياتنا بالسواد.. ولاحلول لأزماتنا المتتالية والحاضرة سوى انتظار وقوعها على رؤوسنا...
تلوثات
ليس الماء والهواء والتربة فقط غارقات بالتلوث.. التلوث وصل إلى آذاننا، من ضجيج على مدار الـ/24/ ساعة، والسبب الحركة الدائمة غير المنضبطة، وتوضع المعامل والورشات قرب، وفي الأماكن المأهولة بالسكان، وعدم تطبيق القوانين الصارمة لردع المخالفين..
أما التلوث الأكثر ضرراً فهو التلوث الروحي والفكري الذي نعيشه بسبب الانحطاط الذي وصلت إليه قنوات البث الربحية على طول الوطن الكبير.. وانسحاب الثقافة السطحية على أجيال توارثت عدم الإحساس بالمسؤولية وهدر المال العام والسرقة والرشاوى..
أرقام
-تبلغ مساحة سورية 18.517.971 هكتاراً تتألف من:
ـ 5.905.323 هكتار من الأراضي الزراعية.
ـ 8.424.682 هكتار من المراعي.
ـ 461.871 هكتار غابات.
ـ 3.709.751 هكتار من الأراضي الصخرية غير الصالحة للزراعة.
ـ 20% من المساحة الإجمالية أراضٍ غير قابلة للزراعة.
ـ 900.000 حالة من الأمراض المنتقلة عن طريق المياه لعام 1996.
ـ 10% معدلات الوفاة بين الأطفال في بعض المناطق العشوائية غير المخدمة بشبكات مياه الشرب.
ـ 2000 كم2 من أراضي الفرات تأثرت بالرمال المتحركة.
ـ 20% حجم الأراضي المروية في سورية، وتمثل 50% من الإنتاج الإجمالي.
ـ هناك تدني كبير في معدل الموارد المائية المتجددة، السطحية والجوفية، المقدرة بـ/10.000/ مليون متر مكعب.