ربمــا..!
شاهد عيان على اللحظات الأخيرة
شاهد عيان على اللحظات الأخيرة
تعود الذكريات الشعبية في كل سنة من رمضان، إلى العديد من المواقف والذكريات القديمة للمجتمع السوري، وكل جيل يحمل في ذاته شيئاً خاصاً بحقبته من تلك الذكريات، وتغيرت الحياة حتى بقيت بعض المواقف والعادات في حكم التاريخ، فجيل الأجداد والآباء كان ضنك العيش والكد لتأمين اللقمة بالحلال (بتعب اليمين وعرق الجبين) يزيد من تعب صيامهم، أما أجيال اليوم فهي حافلة بذاكرتها السريعة والاستهلاكية،
يستطيع المرء أن يتجاهل أحياناً بعض المشكلات من حوله، ولكنه لن يستطيع تجاهلها للأبد، ومن المشاهد الإشكالية التي تتكرر في كل الأعياد، رواج الأسلحة البلاستيكية من مسدسات الخرز، والألعاب النارية على اختلاف ألوانها وأنواعها، كبضائع ترفيهية يستمتع بها الأطفال بين الأزقة وفي ساحات الأحياء، ويتفنون بإبهار المارة بما يستطيعون فعله بها كل ساعة ونهار، فيهدرون على «ذخيرتها» المزيفة جلّ ما يحصلونه من «عيديات» رمزية، ويؤذون بعضهم البعض أحياناً خلال عبثهم الطفولي، عدا عن أنهم يكتسبون ميلاً عدائياً- وإن مؤقتاً- قد يؤثر سلباً في نموهم النفسي مستقبلاً!.
ولى أيلول الأسود ومعه ما ادخر السوريون من سيولة، ودعا الصائمون منهم ربهم في العشر الأخير من رمضان (الكريم) أن يفرج كروبهم وييسر أحوالهم. الدعاء بقلب حزين، جاء جوابه على شكل منحة رئاسية شكلت دعماً مزدوجاً للسوق وللمواطن، الدعامة الأولى لسوق راكدة، نائمة، بانتظار الفرج المتمثل بالسيولة المفقودة بأيدي الناس وجيوبهم، والدعامة الثانية هي لمواطن كسرت ظهره، المونة ورمضان والمدارس، وخرج من أيلول منتوفاً بلا ريش أو لحم.
قبل أن يصدر مرسوم المنحة بأيام قليلة لم يكن أحد من المواطنين يتجرأ ولو بالتفكير بما يمكن أن يشتريه هذا العام لأطفاله، أو ما الذي سيقوله لابنه غير المدلل إذا ما طلب منه قطعة لباس جديدة، أو ما سيقدمه لزواره في العيد، ربما سيكتفي بكيلو من البرازق والغريبة، أو بالقهوة المرة، وهي الأنسب على رأي أبو حسام دالاتي في ظروف كهذه.
لم يكد المواطن السوري ينتهي من كابوس مصاريف المدارس والمونة التي تزامنت مع مصاريف إضافية فرضها قدوم شهر رمضان، حتى وجد نفسه في مواجهة غير متكافئة مع احتياجات العيد، التي تحولت إلى هم إضافي أثقل كاهله، ثم جاء نبأ صدور المرسوم التشريعي القاضي بصرف منحة للعاملين في الدولة تعادل نصف راتبهم المقطوع، وقد نزل هذا النبأ على العاملين في الدولة كجرعة ماء لظمآن في الرمق الأخير، بينما بقي عاملو القطاع الخاص ينتظرون قطرة من أرباب عملهم (كعيديه)، علها تطفئ شيئاً من ظمئهم، خصوصاً وأنها طالما تحولت إلى سراب.
حاولت «قاسيون» استطلاع آراء بعض المواطنين وبعض أصحاب المحلات التجارية لرصد حركة السوق والحالة التي سيستقبل بها المواطن السوري عيد الفطر السعيد..
بعد أن «طارت» الطبقة الوسطى، وسقطت من حسابات المجتمع كشريحة لها مواصفاتها ودورها، وصرنا طبقتين، قلة متخمة منفوخة، وأغلبية جائعة يدعى جزء منها (المستورون).
القلة المتخمة غير معنية بما يجري، لا تتأثر بشيء، لا بالدولار إن هبط أو صعد، ولا بالدعم إن رُفع أو أعيد توزيعه، بالبطاطا (تفاح الفقراء) إن صدّرت أو منع تصديرها، فهذه القلة تأكل وتلبس وتنام وتسهر وتصوم وتعبد ربها كما تشتهي عكس ما تفعل، بعد الإفطار تشرب القهوة في (الشيراتون، الميريديان...الخ) أو في هواء (كوستا)، أو في استدارة (روتانا كافيه) الذي يرتاح بجواره جامع (فروخ شاه)، ثم يتزكون بتوزيع الماء و(5) تمرات على الصائمين في السرافيس والكراجات بعد أن يفتح (المتخم) صندوق سيارته (المرسيدس).
الطبقة الأخرى، كل البسطاء ـ التعساء، الفقراء، والموظفين، وصغار الكسبة، والمثقفين، والذين لا يحبون (كاتو) ماري أنطوانيت، بديل الخبز، تتأثر بكل شيء، بأقل شيء، تفطر بعد الصيام (التسقية، الفول، المسبحة)، وتشرب العرق سوس والتمر هندي، وأكثرهم (بطراً) يذهب إلى مقهى الروضة أو الكمال لقضاء أمسية بعيداً عن هموم المرحلة (الشتاء، العيد) بعد (المدرسة، رمضان، المونة)، ويعودون بالسرافيس المزدحمة إلى الضواحي المتراكمة كالجدري، يتدافعون ويركضون ويصلون إلى (السومرية) أو (البرامكة) بعد عناء.
ها هو العيد يمضي باهتاً كما أقبل، حل كضيف ثقيل الظل على السواد الأعظم من محدودي الدخل، ورحل غير مأسوف إلا على ذكراه الطفولية البائدة التي كانت فيما مضى تعني الفرح والتفاؤل والحيوية.
قبل العيد بشهر، وطوال أيام العيد الثلاثة، بقي أرباب الأسر الفقيرة غارقين في همومهم، لا يدرون كيف ستمضي عليهم أيام العيد العصيبة، وظلوا مربكين من ضيف قد ينتقد ضيافتهم المتواضعة، ومحرجين أمام أطفالهم الذين كانوا ينتظرون هذه الأيام المباركة حالمين بثياب جديدة وعيدية (محرزة)، لكن انتظارهم أسفر عن وهم وخواء وخيبة.
لم تزل (أم حسن) متقوقعة في درعها أمام وكالة سانا منذ أكثر من عشر سنوات، تتوالى الفصول وهي على هذه الحال، النهار الصيفي الطويل، البرد القارس شتاءً، الهواء الشديد.. كل ذلك لم ينل من همة المرأة الصلبة، تمر أمامها قوافل البشر محملين بالورد، وأم حسن ما زالت تسكن الشارع المزدحم.
سألتها ونحن مقبلين على (زحمة) من الأعياد: الناس (معيدين) يا أم حسن، وأنت تعملين؟
أم حسن: العيد لأهله.
أجرت قاسيون مسحاً لأسعار ألبسة الأطفال، وبعض حلويات عيد الفطر المصنوعة منزلياً، للوقوف عند التكاليف الكبيرة لأبسط طقوس العيد، والتي ستُحرم منها الأسرة السورية ليس بفعل الأزمة وحسب، بل بفعل الغلاء المستشري. وشمل هذا المسح معلومات من أسواق مدينة دمشق، والتي تستعد لاستقبال العيد خلال الأسبوع القادم بأسعار قياسية.