عبسي سميسم عبسي سميسم

صور بائسة من عيد لا يشبهنا..

ها هو العيد يمضي باهتاً كما أقبل، حل كضيف ثقيل الظل على السواد الأعظم من محدودي الدخل، ورحل غير مأسوف إلا على ذكراه الطفولية البائدة التي كانت فيما مضى تعني الفرح والتفاؤل والحيوية.

قبل العيد بشهر، وطوال أيام العيد الثلاثة، بقي أرباب الأسر الفقيرة غارقين في همومهم، لا يدرون كيف ستمضي عليهم أيام العيد العصيبة، وظلوا مربكين من ضيف قد ينتقد ضيافتهم المتواضعة، ومحرجين أمام أطفالهم الذين كانوا ينتظرون هذه الأيام المباركة حالمين بثياب جديدة وعيدية (محرزة)، لكن انتظارهم أسفر عن وهم وخواء وخيبة.

فجمعة العيد (الأسبوع الأخير من رمضان) هذا العام لم تحمل أياً من مظاهر الفرح، وحتى الأطفال الذين كانوا يشترون المفرقعات المهربة من المتاجرين بسلامتهم لم يشتروا منها هذا العام بالقدر الذي كانوا يشترون به في السنوات السابقة، ليس بسبب الرقابة الشديدة على تلك المفرقعات، من الحكومة عبر جهاتها المختصة، (فهي كانت وما تزال متوفرة بكثرة)، وإنما بسبب قلة النقود بين أيديهم.

 حلول لا تغني ولا تسمن!

في الأيام القليلة التي سبقت العيد، انتشرت البسطات وملأت الشوارع استعداداً للعيد، ووقد بدا من محتوياتها أن أصحابها هم من الموظفين أو من العمال المعدمين الذين حاولوا الاستفادة من عطلة العيد في بيع بعض الألعاب أو بعض الحلويات للأطفال، ومنهم من اشترى بعض المفرقعات بالرغم مما تسببه من ضجيج وإزعاج للكبار، ومما تسببه من أذى لهؤلاء الأطفال. كما أن بعض تلك البسطات قد احتوت على بعض الألعاب الخطرة كالمسدسات والبنادق الخطرة التي تعمل على ضغط الهواء والتي تستعمل الخردق المطاطي كطلقات قد تسبب أذى بليغاً للأطفال، إضافة إلى تسببها في كسر مصابيح الإنارة في الشوارع، وكانت هناك بسطات تحتوي الحلويات المكشوفة والمصنوعة بطرق بدائية والتي تسببت ببعض الأمراض للأطفال الذين ذهبوا لقضاء العيد في السوق.

في ربورتاج في شوارع دمشق، التقت قاسيون بعض المواطنين وسألتهم عن شجونهم في فترة العيد، فكانت الاستفاضات التالية:

السيد أبو زهير موظف في معمل ورق قال: إن الوضع المعيشي سيء جداً، ولي قريب يعمل في بيع الألعاب وقد اشترى لي كمية من ألعاب الأطفال على أن أبيع منها فترة العيد، وأعيد له ما يتبقى منها، لعلي أحصّل بعض النقود التي أسدد بها جزءاً ديوني التي تراكمت نتيجة مصاريف العيد..

أما عبد الكريم العيسى فهو يعمل على بسطة ألعاب في الأساس، ولكنه فرش عدة بسطات لأولاده الثلاثة كونهم في عطلة من المدرسة، فقد اشترى لابنه أيهم مجموعة من العطورات الخفيفة علّه يجني بعضاً من مصروف مدرسته، بينما أسامة الطالب في الصف الثامن فقد فرش له أبوه بسطة ساعات، أما أحمد الطالب في الصف السادس فقد وضع بسطة ألعاب تبعد عدة أمتار عن بسطة والده.

بالنسبة لاسماعيل، وهو طفل لم يتجاوز التاسعة فقد وضع بسطة صغيرة لبيع المفرقعات في العيد، وعندما حاولنا أن نعرف منه مصدر تلك المفرقعات حمل بسطته وهرب، وكأن أحد ما قد نبهه ألا يتحدث لأحد.

 العيد.. شعارات مناهضة للأسعار!!

بعد تخلي الحكومة عن دورها في ضبط أسعار السوق وتركها المواطن وحيداً في مواجهته مع التجار الذين وصلوا بالأسعار إلى مستويات قهرت هذا المواطن المستهلك وسحقت الطبقات المسحوقة أصلاً، وكسرت ميزانيتهم المتواضعة، ظهرت مجموعة من المحلات الضخمة في أماكن متنحية قليلاً عن الأسواق، رفعت شعارات مناوئة للأسعار وأطلقت أسماءٌ على تلك المحلات تندد بالغلاء وتتوعد الأسعار بأقسى أنواع العقوبات فمن «ساحق الأسعار» الذي يمتلك مجموعة من محلات الأحذية والألبسة والذي رفع شعاراً إلى جانب «ساحق الأسعار» (أجمل من فرنسا وأرخص من الصين)، إلى تنزيلات «كاسر الأسعار» الذي يتعهد على لوحته بكسر أسعار الألبسة الجاهزة الولادية منها والنسائية، وبعدها بعدة أمتار يأتيك محل «قاهر الأسعار» الذي وضع لوحة كتب عليها (البيع بنص القيمة) لجميع الألبسة الرجالية والنسائية والولادية والـ بب. ثم يأتيك محل «ماحق الأسعار» الذي يتولد بسحق أسعار الأحذية والجزادين ثم تأتيك محلات رفعت شعار (ملبوسات أسعار شو ما كان) والذي كتب على لوحته إضافة إلى الشعار أن البيع لديه بنصف القيمة للألبسة الولادية النسائية، لتأتيك بعدها محلات كـ«محطم الأسعار للإكسسوارات» و«مدمر الأسعار للألبسة»، وغيرها من المحلات التي شنت هجومها على الأسعار، ولمعرفة حقيقة أسعار هذه المحلات، وهل هي فعلاً محطمة ومدمرة وساحقة وقاهرة للأسعار، فقد التقينا عدداً من أصحاب هذه المحلات وعدداً من زبائنها، كما استمعنا لآراء بعض أصحاب لمحلات العادية حول هذه الظاهرة.

فالسيد م. الشوا صاحب شعار «ساحق الأسعار» أكد أن محله يبيع جميع أنواع الأحذية والجزادين وهي بشكل عام أرخص من سعرها في السوق بحوالي 5% وأضاف: نحن نشتري باعة بكميات كبيرة جداً وبسعر جملة الجملة، كما نشتري بضائع في نهاية الموسم من المحلات الراقية بسعر زهيد كون موديلها قد انتهى ونخزنها إلى السنة التالي، ونبيعها بعد أن نضع عليها هامش ربح صغير جداً، فنحن نعتمد على مبدأ البيع الكثير والربح القليل، وفي أحيان كثيرة نحن نبيع القطعة بالسعر نفسه الذي يشتري به بائع المفرق، وعن إقبال الناس على الشراء لهذا العام قال: هذه السنة أضعف من السنة السابقة بسبب قدوم موسم المدارس وتزامنه مع العيد لكننا بعنا بشكل جيد في موسم المدارس.

أما السيد (محمد. ب) صاحب محل «ساحق الأسعار» فقد قال: نحن نعتمد على طريقة الابتعاد عن الأسواق إذ تأخذ محلات ضخمة في أماكن متنحية قليلاً عن الأسواق كون إيجاراتها أرخص من المحلات التي تكون في السوق، فتوفر قسماً من تكاليف البضاعة، كما أننا نشتري نوعين من البضائع، الأولى وهو من البضائع التي تنتجها الورشات فنشتري كل الإنتاج بسعر أرخص من السعر الذي يشتري به باعة المفرق، ونضع عليها هامش ربح بسيط ونبيعها، أما النوع الثاني من البضائع فهي بضائع المحلات الفخمة التي تزيد عن الموسم فمثلاً في نهاية الموسم الصيفي، نشتري كل ما يزيد عن المحلات الراقية بأسعار رخيصة جداً، ونخزنها حتى بداية الموسم الصيفي الذي يلي ونبيعها بسعر زهيد، كما إننا نشتري بضائع صينية بكميات كبيرة، ونبيعها بربح قليل، فنسحب الزبائن إلى محلاتنا لا بسبب موقعها بل لرخص البضاعة التي نبيعها، وعن أسعار الأحذية التي يبيعونها أكد أن أسعار الأحذية لديه تبدأ بـ35 ل.س ولا تتجاوز الـ300 ل.س لأفضل أنواع الأحذية التي تباع في محله.

وعن إقبال الناس على الشراء، فقد بين أن الناس هذا العالم لم يقبلوا على شراء الأحذية والملبوسات كما في العام الماضي الذي كان بدوره أسوأ من العام الذي سبقه.

أما صاحب محل (أسعار شو ما كان) فقد بين أن البضاعة التي يبيعها في محله في معظمها هي من إنتاج حلب الذي هو أصلاً أرخص من إنتاج دمشق وأضاف: نحن نشتري تصفيات المعامل وهي موديلات السنة الماضية، كما نشتري بضائع من أصحاب معامل يلزمهم سيولة فنشتري منهم الكمية كلها ونضع عليها ربحاً بسيطاً ونبيعها.

فمثلاً القطعة التي تباع في لمحلات بألف ليرة نحن نبيعها بـ300 ل.س وأضاف نحن لا نشتري بضاعة بقياسات نظامية وموديلات السنة نفسها فكل بضاعتنا هي إما موديلات السنة السابقة وإما أن التجار أو أصحاب المعامل مضطرون للبيع بسبب حاجتهم للسيولة فنقوم بشراء كل البضاعة بأقل من سعر التكلفة ونبيعها بربح بسيط وكما يقال (مصائب قوم عند قوم فوائد)، فنحن نستفيد ونفيد الناس الفقراء الذين لا يستطيعون شراء لباس بسعر مرتفع لأطفالهم.

أما السيد فريد العلي (صاحب محل ألبسة)، فقد أكد أن هذه المحلات قد أضرت بهم كثيراً و«هي تغرر بالزبائن من خلال عرض موديلات (نخب ثاني) أو ثالث، تبيعها على أنها نخب أول، مستغلة جهل بعض المواطنين بنوعية البضاعة. ومن جهة أخرى، فإن إيجارات محلاتنا هي أعلى بكثير من إيجارات محلات التنزيلات كونها في وسط السوق، كما أن الضرائب التي تفرضها الحكومة علينا هي أعلى بكثير من تلك التي تفرض على محلات التنزيلات، (هذا إن فرضت)، لذلك على الحكومة أن تجبر أصحاب هذه المحلات أن تضع المواصفات الحقيقية للبضائع التي يعرضونها، وأن تمنعهم من وضع (آرمات) تغرر بالزبائن وتضر بنا.

 المستهلكون.. آراء متباينة

السيدة أم عبدو سالم التي كانت تتسوق من أحد محلات التنزيلات فقد قالت: نحن لا يهمنا موديل القطعة التي نأخذها، وإنما ما يهمنا هو أن تكون القطعة جديدة ومتينة، والأهم أن تكون رخيصة الثمن، وهذه المواصفات لا تجدها إلا في محلات التنزيلات، ففيها بضائع تباع بنصف قيمتها في المتاجر الأخرى، وهي حل مناسب لنا نحن الفقراء فبألف ليرة أستطيع أن أشتري أحذية جديدة ومتينة لأولادي الخمسة، وبألفين آخرين أستطيع أن أكسوهم بلباس جديد ومناسب وأضافت: بصراحة لولا وجود هذه المحلات لما استطعت شراء كسوة الأولاد على العيد.

أما أم سامر دياب، فقد أكدت أنها منذ افتتاح محلات التنزيلات وهي لا تزور المحلات العادية، لأنها لمست الفرق الكبير في السعر بينهما وأضافت: منذ يومين لم أجد في محلات التنزيلات ما يناسب إحدى بناتي فاضطررت أن أذهب إلى المحلات العادية لشراء تنورة جينز، فصعقت بالأرقام الفلكية التي طلبوها مني، ولم أستطع شراء طلبي منها، فتصور أن تنورة جينز عادية سعرها 1100 ل.س، بينما كنت قد تسوقت تنورة قريبة منها من محلات التنزيلات بـ400 ل.س، وعن أسعار الأحذية واللباس في محلات التنزيلات قالت أم سامر اشتريت طقم جينز ولادي (بنطال + قميص ) بـ300 ل.س، واشتريت أحذية ولادية بـ150 ل.س، وبـ200 ل.س، واشتريت قميصاً نسائياً بـ200 ل.س. وختمت: قد تكون موديلات البضاعة التي يبيعونها هي من سنة سابقة، ولكنها بضاعة جيدة نوعاً ما، وهو بديل جيد عن ألبسة وأحذية البالة.

السيد سلامة يعقوب أكد أنه لم يدخل أبداً إلى محلات التنزيلات لأنه مقتنع بأن رخص سعر القطعة مؤشر على مدى جودتها وأنه لا يقتنع بأن تاجراً يشتري بضاعة بمواصفات جيدة سيتمكن من بيعها بنصف القيمة إلا إذا كانت مواصفاتها غير جيدة أو إذا كانت مسروقة وأضاف: إن أصحاب الدخول المحدودة قد يلجؤون إلى الشراء من تلك المحلات بسبب عدم قدرتهم على الشراء من المحلات العادية وهم يغضون الطرف عن مواصفات تلك البضائع.

 أين الحكومة؟؟

يحق لنا أن نسأل: إلى متى تبقى الجهات المسؤولة في الحكومة عاجزة عن التدخل للحد من استغلال أصحاب النفوس الضعيفة للأعياد والمناسبات؟؟ وإلى متى يبقى أطفالنا المندفعون ببراءة إلى ساحات العيد تحت رحمة باعة المفرقعات، وباعة الحلويات والأغذية الملوثة وغير الصحية؟ وهل تدرك هذه الجهات أن مهمة الحكومة في اقتصاد السوق الاجتماعي ليست الإصرار على المقترحات الخاطئة التي تستفز الشريحة الواسعة من المواطنين وتتسبب لهم بالقلق والخوف والجوع، بل التدخل لحل أزمات البلاد المستعصية، وتسريع عمليات النمو الحقيقي، ومراقبة وضبط حركة الأسواق وخاصة في المناسبات والأعياد، والعمل على خلق اقتصاد قوي وصحيح لمواجهة التحديات المتعاظمة؟؟

كل المؤشرات والوقائع تؤكد أن الجواب هو: لا