يوسف البني يوسف البني

كيف مرّ رمضان الأزمة على المواطن السوري؟ وكيف يترقب ويتمنى أن يكون العيد ضمن التحولات الجارية؟

تعود الذكريات الشعبية في كل سنة من رمضان، إلى العديد من المواقف والذكريات القديمة للمجتمع السوري، وكل جيل يحمل في ذاته شيئاً خاصاً بحقبته من تلك الذكريات، وتغيرت الحياة حتى بقيت بعض المواقف والعادات في حكم التاريخ، فجيل الأجداد والآباء كان ضنك العيش والكد لتأمين اللقمة بالحلال (بتعب اليمين وعرق الجبين) يزيد من تعب صيامهم، أما أجيال اليوم فهي حافلة بذاكرتها السريعة والاستهلاكية،

ومع كل جيل تتغير بعض القيم الأخلاقية والفكرية ومنهجية التصرف، فقيم الآباء ذات الصرامة الأخلاقية التقليدية ليست هي أخلاق جيل الطفرة، حيث بات الاقتصاد السريع والانتقال من الوضع التقليدي إلى الوضع التنموي محركاً للكثير من تلك القيم وتبدلاتها. فقد كان التفاوت الاقتصادي بين أبناء المجتمع الواحد أقرب أن يكون ضئيلاً، وتشابهت الحياة اليومية والمعيشية لشرائح كثيرة من المواطنين، وهذا الوضع خلق انسجاماً اجتماعياً بحيث جعل أبناء الحارة الواحدة يتقاربون في طريقة الملبس والمأكل والمسكن، وكان يأتي رمضان ليؤكد هذا الانسجام، ولكن بعد أن ظهر التفاوت الاقتصادي والطبقي بين أبناء الحارة الواحدة واتسعت دوائر المدن، وانتشرت ظواهر الفقر والبطالة والتشرد، واستمر هذا الوضع بالاحتقان ليتفجر احتجاجات شعبية تطالب بالعدل والحرية والديمقراطية والعيش الكريم، ويأتي رمضان الأزمة في هذا العام ليحدد شكل هذا الصراع. 

وجه آخر لرمضان الأزمة

لن نتحدث في رمضان هذا العام عن أسعار المواد التموينية والاستهلاكية بالتفصيل، ويكفي أن نشير إلى أن أسعار بعض المواد الاستهلاكية اليومية كالبندورة والخيار والبطاطا والكوسا والباذنجان، هي حول معدلاتها في مثل هذا الموسم من كل سنة، وربما أقل بقليل، إلا أن الضربة الكبرى على رأس المواطن السوري سببها الارتفاع المجنون لأسعار الفواكه والرز والسكر والزيوت والسمنة، وأيضاً سنتجاوز هذه المشكلة لنسأل المواطن السوري كيف استقبل رمضان الأزمة هذه السنة؟! وكيف تعايش معه بشكل يومي؟! وكيف يترقب العيد ويخطط له؟ وماذا يتمنى أثناء انتظاره لاستقبال العيد؟!

ـ الحاج أبو صياح قال: «في البداية أود أن أوجه تحية طيبة وعطرة إلى كل شهداء الوطن الغالي وكل من ناضل ويناضل من أجل حرية وكرامة الشعوب البائسة واليائسة والمضطهدة والمقهورة. في كل عام يأتي شهر رمضان المبارك والعالم الإسلامي بكل أطيافه يستقبله بسرور وأمل أن يكون بشائر خير، أما هذا العام فقد أتى حاملاً على أيدي المافيات والشبيحة شلالات من الدم والقهر والذل والهوان، مكشراً عن أنيابه، موضحاً للعالم كله ما كان يختفي وراء شعارات المقاومة والممانعة، تبين أن المقاومة والممانعة لشعب أعزل، عانى لعقود طويلة من الظلم والفقر والذل، هذا رمضان والعيد على الأبواب، وبدلاً من شراء الثياب والحاجيات للأولاد سنشتري الأكفان والقبور، نعم هذا هو رمضان 2011، في القرن الحادي والعشرين وصل العالم إلى الفضاءات الخارجية كلها، ونحن نعم وألف نعم، وصلنا إلى باطن الأرض، ولكن هيهات منا الذلة، فبعد اليوم سينبت ربيع جميل مكلل ببساط من أزهار وورود ذات روائح عطرة من دم شهداء الوطن الذين انتفضوا من أجل طريق حرية الوطن، ومزخرف ببساط من أطياف الوطن بأسره، ومهما طال الليل فلابد أن يطلع الفجر والشمس المشرقة على كل حر أبيِّ». 

توريط في غير محله

ـ الفلاح أبو حسن قال: «لا حسّينا برمضان ولم تعد لدينا قناعة أساساً أنه شهر الخير والبر والإحسان والمودة والتراحم، وأي عيد ننتظره إذا كنا كرهنا قدوم رمضان هذه السنة والجيش، كل يوم يخلع أبواب منازلنا ويداهمنا بحجة التفتيش، وفي بداية الأحداث كنا نلوم الذين يخرجون في المظاهرات، وكنا نقول لهم «يا شباب حافظوا على البلد، بلاها الطلعة بالمظاهرات وأعطوا الحكومة مهلة للإصلاح» وكنا دائماً نكرر لهم هذا الكلام حتى قال لي أحد الشباب تعال وشاهد ماذا يفعل الذين كنا نعتبرهم حماة الديار، ونقول إنهم يحموننا ويدافعون عنا، وشاهدتهم لأول مرة يخلعون الأبواب ويسرقون وينهبون المنازل ويكسرون الأثاث والأواني، وصرت أخرج مع المظاهرات، وصاروا يواجهوننا بالرصاص الحي والقنابل والأسلحة الأخرى، هل هؤلاء هم حماة الديار؟!»

ـ المواطنة أم سامر قالت: «صوم وشوب، وكمَّلتها معنا الحكومة بتقنين الكهرباء التي تنقطع أكثر من مرتين باليوم، ارحمونا يا من بيدكم الأمر، من أين سيجدها المواطن؟! فبالإضافة إلى التوتر والقلق والاضطرابات النفسية خوفاً على البلد من الدمار، نتوجه بالدعاء الصادق للخروج من هذه الأزمة، ووقف نزيف الدم غير المبرر، وفي داخل الأسرة فإن ميزانية شهر رمضان مرتفعة مقارنة مع باقي الأشهر، حيث تزداد الاحتياجات نظراً لضرورة تنوع الأطعمة على مائدة الإفطار! ولكن في رمضان هذا العام نرى أن العزائم الرمضانية قليلة أو معدومة، لأن بال الناس مشغول بالهم الوطني الأكبر، أما من جهة العيد فإننا نترقبه بتناقض كبير، وتنازُعٍ في المشاعر بين الرغبة بالفرح المفقود منذ زمن، وبين الحزن على هذه الأرواح التي أُزهِقت مجاناً دون أية قيمة»

ـ  أبو محمد والد خمسة أطفال، موظف في قطاع النسيج ويعمل دواماً إضافياً لدعم الراتب الذي لا يستلم إلا ربعه فقط بسبب أقساط القروض والجمعيات، قال: «إن ضربتين على الرأس بتوجع، فالأسعار نار رغم انخفاض أسعار الخضار الموسمية، إلا أن الفواكه والزيوت والسمنة والرز والسكر أسعارها كاوية، وأتوقع أن يأتي يومٌ نطبخ فيه طعامنا على الماء فقط، ويأتيك مصروف رمضان الزائد عن باقي الأشهر وخاصة هذا العام حيث ترافق مع أحداث هذه الأزمة الوطنية العامة والاضطرابات التي تشهدها سورية، والتي عمل بعض ضعاف النفوس والمنتفعين من الأزمات، التجار والمستوردين المتاجرين بدم الشعب، على استغلالها ورفع أسعار المواد الأساسية، وخاصة المستوردة، أما عن العيد فمن له نفس أن يُعيِّد بوجود هذا القلق والتوتر والأخبار التي توجع القلب وتغم النفس؟ والممارسات التي ينفذها بعض الموتورين في الشارع، من قتل وسفك دماء بريئة»

ـ أبو يحيى من جوبر قال: «أيُّ عيد وأيُّ رمضان؟ والله لو نقلنا الصورة التي نعاني منها لما صدقنا أحد، إن جوبر والقرى المحيطة بها، ومعظم قرى وبلدات ريف دمشق المحيطة بدوما وحرستا ليست سوى ثكنات عسكرية، وحتى أمام مداخل البيوت وأمام واجهات المحلات، ينتشر الجنود ورجال الأمن مدججين بكل أنواع الأسلحة، فكيف تطاوعك نفسك أن تأخذ ابنك إلى السوق لتشتري له لباس العيد؟ وكيف لك أن تفكر حتى أنك ستعَيِّد؟ وليس لأحد نفس للتحضير لحلويات العيد التي كنا ننتظرها من عام لآخر، لقد قتلوا الفرحة فينا والبهجة وانتظار العيد، نفسياتنا من هذا الجانب محطمة ويائسة، نتمنى ألا يأتي العيد لأننا نحس أن القيامة ستقوم صباح العيد، والأمور ستؤول إلى الأسوأ»

ـ المواطن أبو زياد من دوما قال: «لن أتكلم عن الحسرات والمرارات التي رافقت حياتنا اليومية طيلة أكثر من خمسة أشهر، بما فيها شهر رمضان الذي نعتبره شهر المودة والتراحم، وهو من الأشهُر الحُرُم التي يمنع فيها سفك الدماء، وأقول بصراحة وبكل جوارحي الخائفة على هذا البلد من الدمار والفوضى، أتمنى ألا يتواجد الجيش والأمن في طريق الناس على الأقل صباحية العيد، أثناء زيارة المقابر وصلاة العيد، فنحن لسنا بحاجة إلى مجازر جديدة». 

أزمة الأزمات المتراكمة

ـ المواطن أبو إبراهيم الذي يعيش الأزمة فوق أزمة التهجير وقطع الرزق والعمل، بعد أن كان فلاحاً يُحسَب له حساب قال: «أيُّ رمضان وأيُّ عيد والمواطن غريب في بلده؟ وهو مشرد وجائع ومقهور، وبغض النظر عن ملامح الأزمة الوطنية التي نعيشها الآن فقد بدأنا نحس منذ سنوات عديدة أننا نعيش في أفقر دول العالم وأكثرها مجاعة، مع أن سورية من أغنى دول المنطقة بخيراتها ومواردها الطبيعية والزراعية والبشرية، وحالتنا هذه تنطبق على كل المواطنين الذي عاشرتهم قادمين من أغلب المحافظات، ولكني أتكلم فقط عن محافظة الحسكة التي غادرتُها لأعيش في عشوائيات المدن الكبرى وأحزمة الفقر والتشرد، فالحسكة كانت تعتبَر الخزان الاقتصادي الزراعي لسورية، والزراعة كانت مصدر الحصول ليس فقط على قوتنا اليومي بل ترفد اقتصاد البلد بالمنتوجات الإستراتيجية، وكانت هذه المحافظة لسنوات طويلة أكثر المحافظات استقراراً من الناحية المادية، بل وملجأً لكثير من المواطنين السوريين الذين يبحثون عن العمل ولقمة العيش، أما في الوقت الحالي وبعد أن ارتفعت أسعار المواد الزراعية ومستلزمات الإنتاج، وجفت الآبار التي تضخ المياه العذبة، وضربت الكثيرُ من الأمراض والأوبئة البشر والحجر والمزروعات، ما أدى إلى هجرة العديد من الأسر تحت وطأة الجوع للبحث عن فرصة عمل في المعامل أو المصانع، أو كباعة جوالين، أو بالعمالة اليدوية اليومية، وهذا الأمر هو السبب الرئيسي وراء خروج الآلاف من المواطنين في المحافظة للمطالبة بكرامة العيش وتحسين الوضع، إلى جانب الحاجة الكبيرة للحرية والديمقراطية، وليس هناك عيد ما لم تتحقق هذه المطالب، وقريباً إن شاء الله»

ـ الشاب سمير الذي ما زال في مقتبل العمر، يعمل على بسطة تفترش الشارع، يائسٌ وفاقدٌ الأمل، الأمر الذي يؤدي إلى إنتاج جيل مشوه بالتفكير والممارسة والعلاقات المتبادلة، وربما التصرفات الخاطئة والمؤذية في كثير من الأحيان، قال: «أنا لا أحسُّ أن في سورية هناك متسع حتى للتفكير بأنه يمكن أن يكون لدينا أيام تسمى أيام العيد، فالدم والفوضى والأزمة الموجودة الآن ليست جديدة، بل هي وليدة تراكم أزمات سابقة كثيرة وأنا كمثال، ونتيجة لبعض الظروف التي خلقتها الحكومات، فقد بدأتُ العمل منذ أربعة أشهر لأساعد والدي في تأمين دخلٍ كاف للأسرة، ولأنني أكبر أخوتي الخمسة كان لابد لي من تدبر الأمر، فعائلتي كبيرة، ونسكن في بيت إيجار، وبعد ترك المدرسة لم أجد عملاً يمكن أن أمارسه سوى البيع على البسطة، وهذا العمل لا يحتاج إلى رأسمال ولا شهادات علمية، ولكنه يحتاج إلى جهد كبير، وأنا أقف هنا أكثر من اثنتي عشرة ساعة يومياً لأحصل على 200 أو 300 ل.س ربحاً صافياً، وأنا راضٍ بهذا العمل رغم صعوبة الوقت ورغم ظروف الفقر والحرمان، لأنني أحس بالسعادة عندما أقدم للزبون بضاعة تناسب طلبه بسعر رخيص جداً عما يجده في المحلات، وهناك إقبال معقول للتسوق من البسطات بسبب التنوع الذي تقدمه للشاري وانخفاض الأسعار قياساً بالمحلات، وأصبح التوجه للتسوق من البسطة حتى للحصول على لباس العيد نظراً لضعف القدرة الشرائية عند المواطن، فإنه يجد على البسطة ما يُرضي ذوقه وبسعر يناسب دخله، على كل حال فأنا أعود سعيداً إلى البيت مساءً عندما أجد ابتسامة على وجوه أخوتي الصغار» 

واقع نتمنى ألا يطول

هذا هو رمضان الأزمة في سورية هذا العام، وهذا هو شعور المواطنين المحبَط على أعتاب العيد، الذي كان من المفترض أن يحمل بين ثناياه الفرحة والأمل والسعادة، والأمنيات بتحقيق الأحلام، وعودة الأيام على الناس بالخير والبركة وهدوء البال، فهل يحقق هذا العيد هذه الأمنيات لشعب عانى كثيراً من صعوبات العيش والإهمال والتهميش، ودفع ثمناً للحصول عليها دماءً كثيرة؟ نتمنى أن تختفي في أيام العيد على الأقل كل مظاهر العنف والتوتر والتصعيد، لعل هذه الأيام المباركة تكون مدخلاً للتهدئة والتروي والتفكير بالبحث عن حلول جادة للخروج من الأزمة، بعيداً عن إراقة المزيد من الدماء البريئة.