السوق السورية على أعتاب العيد.. رحى الأسعار تطحن (المنحة) وأحلام الفقراء..

ولى أيلول الأسود ومعه ما ادخر السوريون من سيولة، ودعا الصائمون منهم ربهم في العشر الأخير من رمضان (الكريم) أن يفرج كروبهم وييسر أحوالهم. الدعاء بقلب حزين، جاء جوابه على شكل منحة رئاسية شكلت دعماً مزدوجاً للسوق وللمواطن، الدعامة الأولى لسوق راكدة، نائمة، بانتظار الفرج المتمثل بالسيولة المفقودة بأيدي الناس وجيوبهم، والدعامة الثانية هي لمواطن كسرت ظهره، المونة ورمضان والمدارس، وخرج من أيلول منتوفاً بلا ريش أو لحم.
قبل أن يصدر مرسوم المنحة بأيام قليلة لم يكن أحد من المواطنين يتجرأ ولو بالتفكير بما يمكن أن يشتريه هذا العام لأطفاله، أو ما الذي سيقوله لابنه غير المدلل إذا ما طلب منه قطعة لباس جديدة، أو ما سيقدمه لزواره في العيد، ربما سيكتفي بكيلو من البرازق والغريبة، أو بالقهوة المرة، وهي الأنسب على رأي أبو حسام دالاتي في ظروف كهذه.

سوق ما قبل المنحة

رمضان يهوي بنهاره الطويل على الجوارح الجائعة، يعود المواطن من عمله إلى طعام الإفطار، إلى المسلسل السوري (باب الحارة)، يشفق على (الكبير) أبو عصام ويلعن أبو غالب، ثم يغط في نوم عميق حتى موعد السحور، وهكذا في دوامة يومية متٍكررة.

في الوقت القصير الذي يجلسه مع أسرته، الوقت الذي بات يتحاشاه، يمطره الصغار وأمهم بجملة أسئلة عن العيد والملابس الجديدة، هل سيعطيك مديرك (عيديه)، متى سيأتي العيد، قبل أول الشهر أم بعده، هل سنذهب إلى البحر؟!..

أبو أحمد شرح لنا كيف يهرب من هذه الأسئلة، إنه ببساطة يطيل عدد ركعات صلاة التراويح حتى يضمن عند العودة أن كل من بالبيت غطوا في نوم عميق. في السوق، أغلب المحلات مغلقة بعد الإفطار، ومن لديه أمل في زبون قادم يتسلى بكومة الدراما ريثما يرسل الله زبوناً، أما قبل موعد الإفطار فيتسلى الناس بسؤال بعضهم البعض عن الأسعار والحديث عن الغلاء.

رامي العشا (عامل في محل لبيع الألبسة): كل الزبائن الذين تراهم أمام الواجهات هم هنا (للفرجة) ومن يدخل منهم فإنما يدخل لمجرد أن يستفسر (يتنور) كما يقول، وهذه السنة تبدو (ناشفة!). أحد الزبائن في سوق الصالحية: كل الناس تنزل إلى السوق قبل العيد، لتتفرج على الجديد، ترى الأسعار ثم تحسب ميزانيتها، وتحدد ما يمكن أن تفعله، إذاً، سوق ما قبل المنحة هو سوق للفرجة والنظر، ولحساب ما في الجيب.

 
ليلة المنحة

ليلة من الليلات الجميلة في حياة السوري، عاشها كل مواطن كفارس في أول العمر ينتظر امرأة عذراء على جمر، هنا لا مجال للهرب من العائلة، يبدأ المواطن مع الزوجة والأولاد في الحساب، فهي لمرة واحدة ويجب أن لا تبذر أو تهدر، وكذلك يجب التفكير بإبقاء قليل من المال ليوم العيد وما بعده والتحسب لأي طارئ. وهنا يبدأ العد التنازلي لليأس، أم خالد منحة زوجها أكبر من منحة زوج فاطمة، لأن أبو خالد ببساطة على وجه تسريح، نادتها: متى سنذهب إلى السوق يا فاطمة؟ وبصوت غير منفعل أجابت فاطمة التي تعرف جيداً جارتها: الأحد إن شاء الله..

بنطال + بلوزة لمريم، بنطال + قميص لخالد، حسام ويارا التوأمان نفس القياس والعمر، طقم ولادي + طقم بناتي... في الحساب وحسب ما شاهدته أم خالد... تنهدت ونامت!.
 

أسعار (شي ما بيتصدّق)!!

مثل أحجية عن الغول والعنقاء والخل الوفي، المستحيلات الثلاثة في التاريخ البشري، لقد ضاعت الحسابات من يد أم أحمد، الأسعار لا تصدق، هوامش ربح مخيفة، رغم الركود وحالة السبات التي تسيطر على السوق. يعترف المواطن والتاجر أن منحة النصف راتب ساهمت إلى حد كبير في الصحوة الشرائية وفي زيادة الحركة وفي التخفيف من حرج الأهالي أمام أبنائهم، ولكن السوق الملتهبة ستأخذ كل شيء، ولكل من الطرفين ما يعذره أو ما يبرر له سخطه واستهجانه.

في السوق: يفرق أصحاب المحلات بين سعرين (الشعبي، المودرن)، فهذه أسواق، والمواطن يذهب حسب إمكانياته. في كفر سوسة الشق الأول (الشعبي) لا تصدق أنك شعب، والأسعار كانت نفسها قبل عام للأغنياء. أحمد دحلة (صاحب محل ألبسة) يقول: لم يعد التاجر وحده من يتحكم بالأسعار، وهذا ما أدى إلى الزيادات الكبرى فيها، لا أحد منا يريد أن يتوقف رزقه، لكن السوق لا ترحم أحداً.

الولادي: طقم ب.ب من 1-4 سنوات السعر بالليرات من 1200- 1600 للجملة 1600-1700 للمفرق

المحير: (البناتي)؛ 10-16 سنة السعر بالليرات 2500.. (الولادي)؛ من1-3 السعر بالليرات 1000 للجملة من 1300-1400 للمفرق.. (المحير منه)؛ 10-16 سنة السعر بالليرات للجملة (جينز) 2400 من2800-2900 للمفرق.. أما من حيث الفروقات في السعر بين السوقين (الشعبي، المودرن) فلا تتجاوز 1000 ليرة سورية، وعلى سبيل المثال الصنف الأول 2500 ليرة سورية، والثاني3500 ليرة.

الألبسة النسائية: تنورة + جاكيت سبور2200 للجملة 2800 للمفرق.. تنورة 1500 وللمبيع2000 ليرة.. بنطال جينز1200 للمبيع1400 ليرة.. بدلة جينز نسائية (صيني) 1600 ليرة للجملة للمبيع 2000 ليرة.. ويمكنك ببساطة أن تضيف 1000 ليرة لتشتري من غير كفر سوسة.

الرجالي: وعلى رأي بشار (صاحب محل ألبسة في الصالحية): الرجالي أرحم، والسبب أن الأهالي يؤجلون الشراء لفترة ما بعد المناسبات، ويتركون لأولادهم هذه المناسبة، وهذا بدوره يؤدي إلى قلة المبيع والإقبال.. بنطال 450 ليرة.. قميص350 ليرة.. طقم رسمي2500 ليرة.. والفوارق في هذا الصنف تصل إلى أرقام خيالية، لا يحكمها السوق (قانون العرض والطلب) إنما الشطارة وهو قانون سوري بامتياز.

الأحذية: وهي كالألبسة لا سقف لها، ولا يحكمها قانون، وحسب (الموديل) والشاري، والصرعات.. ب.ب من 1-4 سنوات من 375-400 ليرة.. بناتي من 5-6 سنوات من 550 فما فوق.. ولادي (صبيان) 450 ليرة.. وهذه الأسعار من التي تصنف في إطار الصنف الشعبي، أما بقية الأصناف الأخرى فيحكمها النوع، المصدر، وحالة الزبون المادية.

في الأسباب

لا شك أن عوامل كثيرة ساهمت في وصول الشارع الاقتصادي السوري إلى ما هو عليه، من غلاء بات يحيل بين المواطن ولقيمات تسد الرمق وتمسك اليد عن السؤال، ومن اضطراب في الأسعار، واحتكار من الجشعين الذين يرون في حاجة الناس مصدراً لزيادة ملايينهم، دون النظر إلى ما يضير بالوطن والمواطن على حد سواء.

 في الأسباب يقول السيد( س.ر) من مالكي أحد المحلات الكبرى في (سوق شارع لوبية):

1 - احتكار المنتجين للبضاعة ولضخها في وقت الموسم (المناسبة).

2 - ارتفاع سعر القماش المستورد.

3 - تحكم تاجر القماش الكبير بالأسعار، وكافة المنتجين والمصنعين بعملية التسعير، كون هؤلاء يدفعون وفق مبدأ (الجمعية) وهي الدفعة الواحدة في الأسبوع.

4 -غلاء الإكسسوارات مثل (الخرز، الشك).

5 -السيولة المفقودة من أيدي الناس ساهمت إلى حد كبير في قلة الإقبال وبالتالي ارتفاع الأسعار للتعويض عن فقدان ميزة الطلب.

 

ازدحام مجاني

في الآونة الأخيرة، ومع دخول المواطنين في شهور الخيبة، وفقدان الأمل في الزيادة المرتقبة للأجور والرواتب والتي لم تر النور حتى تاريخه، إلى جانب الغلاء اللامنطقي للأسعار، والغياب التام للرقابة، وتخلي الدولة عن الدور الداعم والمراقب والذي يتدخل للحيلولة دون وقوع الأزمات. كل هذه الأسباب مجتمعة، أكدت للمواطن وبما لا يدعو للشك، وفي ظل البطالة الشابة والمتنامية، أن مبدأ تدبير الرأس الذي كان يعتقد أنه ولى، لا يزال هو المبدأ السائد، ومن هنا صارت القوانين الجديدة التي أملاها السوق بحركته غير المنضبطة واللامنطقية، هي المعيار، مما أرسى أخلاقاً جديدة لسوق لا يعرف الرحمة.

يقول أبو وسيم (أحد الذين عاصروا بداية نشوء بعض الأسواق والصناعات): أيام زمان كانت الزحمة تعني الربح، زحمة اليوم مجرد أوهام، الناس فقط تتفرج على المعروضات، كثرت أسئلتهم وقل شراؤهم، وأكثر ما يمكن أن يفعلوه أن يتفرجوا على بعضهم.

 
في الريف

شكل جديد، بنفس القدر من الاحتكار، وتحكم التجار، وغياب الرقيب، وإحجام الدولة عن التدخل والاكتفاء بسلبية دور المتفرج، منح السوق الريفي ميزة جديدة، هي بلادة الذوق تحت شرط تقديم منتج أقل سعراً وتكلفة. ففي إحدى المناطق ما يسمى (قاهر الأسعار)، يبيع ألبسة العيِد واللوازم الأخرى حتى المدرسية، وبأسعار لا تصدق، فعلى سبيل المثال سعر الطقم الولادي (بناتي، صبياني) ما بين 175-300 ليرة.

معتز (بائع بسطة) يقول: السبب يعود إلى أن هؤلاء المصنعين الريفيين، يشترون أسوأ أنواع القماش، وتساهم البضاعة الصينية في تدني هذه الأسعار.

في الريف الذي صار يشبه المدينة أكثر منها، حيث تنافس بعض الأسعار هناك أسعار المدينة في أكثر أسواقها جشعاً وإيغالاً في عدم الرضوخ لمنطق السوق، إنما منطق المصالح فقط.

في قطنا على سبيل المثال: سعر الطقم البناتي من 7-12 سنة بين 1900-2400 ليرة، والبنطال الجينز ما بين 6-10 سنة يصل سعره 600-1300 ليرة. بينما ينتظر بعض المدقعين زكاة رمضان، والباعة الجوالين.

 
بسطات

في البرامكة، في الحواري، وأمام محلات البالة، الألبسة والأحذية تدخل في حسابات أخرى، البضاعة الأجنبية، الجودة الإيطالية، العمر اللامنتهي للقطعة الأجنبية، الموديل الشيطاني، الحداثة، لعبة الشطارة والعواطف والغرائز الشاذة والطامحة.

البالة: الحذاء الايطالي 2000-6000 ليرة.. الجاكيت الإيطالي أو التركي 2500-15000 ليرة.. بنطال الجينز 1000-6000 ليرة.. هذه البالة، أما بضاعة ذوي الدخل المحدود فهي في البرامكة كالتالي: حذاء حلبي 175-300.. قميص 150.. بنطال 200-350.. جاكيت 400-700 .. ليس قماشاً بل من مواد بلاستيكية أو من قماش (ستوك) توجد الملابس الولادية المعبأة بأكياس من البلاستيك، وبأسعار مغرية: طقم ب.ب من 50-75 ليرة.. الأحذية متنوعة 250-400..
 

من غير منحة

وهؤلاء ليسوا بالقلائل، من غير الموظفين، من كانوا خارج الدولة، والعاطلين عن العمل، والحالمين من موظفي القطاع الخاص برحمة أرباب العمل، ما الذي سيفعله الآباء منهم، وما الذي ستصير إليه أحلام الأبناء... ربما (بابا نويل) جديد بلا جرس وقبعة.
 

عيد بعيد

تبدو المعادلة السورية مغامرة في العبث الذي يراد منه البقاء منا مبتسمين ويقظى بأعواد ثقاب فقط، فالعيد للفرح القادم من الأراجيح الكسيحة لأولادنا، بالزمامير المبحوحة في أفواههم، للقروش القديمة والليرات الجديدة... لدموع الآباء الذين يهربون من الفرح الحائر في عيون الصغار..

العيد بعيد... أيها السوري العتيد.