أيها المتخمون: لكم عيدكم.. ولنا عيدنا
بعد أن «طارت» الطبقة الوسطى، وسقطت من حسابات المجتمع كشريحة لها مواصفاتها ودورها، وصرنا طبقتين، قلة متخمة منفوخة، وأغلبية جائعة يدعى جزء منها (المستورون).
القلة المتخمة غير معنية بما يجري، لا تتأثر بشيء، لا بالدولار إن هبط أو صعد، ولا بالدعم إن رُفع أو أعيد توزيعه، بالبطاطا (تفاح الفقراء) إن صدّرت أو منع تصديرها، فهذه القلة تأكل وتلبس وتنام وتسهر وتصوم وتعبد ربها كما تشتهي عكس ما تفعل، بعد الإفطار تشرب القهوة في (الشيراتون، الميريديان...الخ) أو في هواء (كوستا)، أو في استدارة (روتانا كافيه) الذي يرتاح بجواره جامع (فروخ شاه)، ثم يتزكون بتوزيع الماء و(5) تمرات على الصائمين في السرافيس والكراجات بعد أن يفتح (المتخم) صندوق سيارته (المرسيدس).
الطبقة الأخرى، كل البسطاء ـ التعساء، الفقراء، والموظفين، وصغار الكسبة، والمثقفين، والذين لا يحبون (كاتو) ماري أنطوانيت، بديل الخبز، تتأثر بكل شيء، بأقل شيء، تفطر بعد الصيام (التسقية، الفول، المسبحة)، وتشرب العرق سوس والتمر هندي، وأكثرهم (بطراً) يذهب إلى مقهى الروضة أو الكمال لقضاء أمسية بعيداً عن هموم المرحلة (الشتاء، العيد) بعد (المدرسة، رمضان، المونة)، ويعودون بالسرافيس المزدحمة إلى الضواحي المتراكمة كالجدري، يتدافعون ويركضون ويصلون إلى (السومرية) أو (البرامكة) بعد عناء.
على (قد بساطك)
اليوم الثلاثاء، ما بقي في ذمتنا ثلاثة أيام للعيد، في العادة كان العيد يبدأ عند المواطن والتاجر قبل أسبوعين، تكتظ الأسواق، يختار الناس بهدوء ما يشتهون، كلٌّ يعرف سوقه، ولم تكن الفروقات كبيرة بين الأسواق، كما الطبقات، بالأمس فقط بدأت الحركة تدب في الأسواق، لكنها مرتبكة، حذرة، خائفة، المنحة الرئاسية أعطت قليلاً من الشجاعة للخارجين من شهرهم المنصرم بديون وأعباء، وقلق.
وهنا يبدأ المواطن عدّ ما في جيبه، ماذا تشتري الآلاف القليلة لعائلة كبيرة، وإلى أي سوق يتجه؟ فيأتي الجواب: (على قد بساطك مد رجليك)، البالة، البسطات، سوق الحميدية، الصالحية، الحمراء..
أمام الواجهات اللامعة (للفورسيزنز).. إلى الشارع إذن.. البسطات الممتدة على الأرصفة والمنثورة (كالجرب) في شوارع دمشق.. قميص + بنطال بـ/600/ ل.س، حذاء من 200 ـ 400 ليرة سورية، أما الصائحون على الجوارب كل /6/ جوارب بـ/100/ل.س ويعرف المواطن سلفاً أن نصفها (مضروب) وصالح للاستعمال لمرة أو مرتين... ولكن أي شيء جديد.
حتى الأسواق الجيدة (الجسر الأبيض) انقسم السوق إلى سوقين، محلات بأرقام مرتفعة، وبسطات بأسعار معقولة، زحام في السوقين، السوق الثاني (البسطات) افترش أمام المحلات، وما يعني هنا، وجود صراع، وشكاوى، وتدخّل شرطة المحافظة، وهروب (المبسطين) ثم عودتهم، حتى (الأندونيسيون، الصينيون، النساء الروسيات) لهن حصتهن من هذا الشارع، يبعن (الكرافات، الأقشطة، الزينة)، والروسيات في دمشق امتهن (الألبسة النسائية)، ثم أكوام من الملابس الداخلية النسائية، وألبسة الأطفال.
على أي سيارة متوقفة يفرش فتحي وأخوه ماهر ألبستهم، واجهة السيارة أصبحت محلاً، يقول فتحي: «لنا زبائننا، أصحاب الدخل المحدود، والفقراء، أغلى قطعة عندي بـ500/ ل.س، أطقم للأطفال من /200 ـ 400/ ل.س، البنطال (300/ل.س، و القميص أو (الكنزة) بـ/200/ل.س، يعني يستطيع الفقير ب/500/ل.س أن يلبّس طفلاً، أما أخي (ماهر) فدوره فقط مراقبة شرطة المحافظة...
(ش.مراد) صاحب المحل المقابل الذي تتوضع أمامه (البسطة): «هؤلاء قطعوا رزقنا، يأتون بالبضائع الرخيصة من المعامل ويبيعونها».
أما المواطن فيشتري ما يمكن لما في جيبه أن يشتري، والبحث الذي تدور عليه عيناه هو الرقم الأقل، والقطعة المناسبة.
مجموعة من الباعة تفترش الرصيف بأكياس، تتداخل فيها الألبسة، وهؤلاء أسعارهم أقل من أسعار البسطات بقليل، أيضاً لهم زبائنهم.. الأقل دخلاً أو الذين يعتاشون على أموال الصدقات والزكاة، القطعة الأغلى حسب (أبو فارس) /300/ ل.س يقول: «بضاعتنا للفقير (المعتر)، الذي يريد أن يشتري جديد لأطفاله في العيد قدر ما يمكن أو يُستطاع».
مقابل جامعة دمشق (كلية الحقوق) سيارة شاحنة صغيرة (هوندا) تتوسط مدخل الجامعة في منتصف الرصيف، كافة أنواع الألبسة، من مئة ليرة للبنطال حتى /500/ل.س، والقمصان بأنواعها 200 ـ 250ل.س، وينادي (قاسم) صاحبها: «للفقير، تعا عيّد».
بابا نويل
هدايا العيد، الألبسة، الألعاب، تهبط ليلة العيد، تحت وسادات الأطفال، وهم فقير وغني، له نفس الحلم، أن ينزع قديمه ويرتدي الجديد.
ترى من هو بابا نويل الفقير في زمن الغلاء واللارقابة، و الاحتكارات، وتحييد الفقراء إلى القاع؟؟
* بائع بسطة ألعاب الأطفال يتربع قرب (سانا)، ألعاب بلاستيكية مغلفة من 25 ـ 50ل.س، بنادق بلاستيكية، سيوف، ومسدسات.. لم يعد (بابا نويل) قرب الضواحي، وأزقة دمشق الفقيرة..
* (بابا نويل) يسكن في أحد المحلات في شارع (أبو رمانة)، يتدافع الأطفال الهابطون من السيارات الراقية، ليشتروا آخر ما توصلت إليه اختراعات (فلة، باربي)، وأبطال (الديجيتال)، ومطابقات أحدث مسلسلات العنف، و(سلاحف النينجا)، الأسعار هنا (بالآلاف)..؟؟
إذن (بابا نويل) يعرف طريقه، لن يمر في (نهر عيشة)، الدحاديل، الدويلعة، ولن يعبر البيوت المتلاصقة والمتراكمة فوق بعضها في (عش الورور، دف الشوك)، ولا مناطق الفقر والمخالفات، ولن يعبر سور الجائعين، ولن يدس هدية تحت وسادة (فقير) يحلم بأرجوحة وبالون طويل.
صمت الرخام
الطريق الطويل الذي يمتد على امتداد (الفورسيزنز)، قبل سنوات قليلة، كان شارعاً فقيراً، يبدأ بمحال لبيع الأجهزة الكهربائية (غسالات، برادات....) يتوسطه (جامع فروخ شاه) ثم (فلافل المعرض) اللذيذة، وينتهي بنزلة (نادي دمشق) وطلعة (التجهيز). شارع البرازيل كان شارعاً عادياً، للعابرين من الصالحية إلى البرامكة، شجر يظلل رصيفه، وأناس يشبهوننا يعبرون، لكن هذا (الفورسيزنز) غيّر الناس، والمارين، والابتسامات، و دخل الشارع زوار جدد، صاروا هم ساكنيه، والزواريب القديمة، قبض ساكنوها تعويضهم المادي البخس، ورحلوا، واصطفت السيارات الفارهة معلنة عصراً جديداً لهذا الشارع الذي كان بسيطاً وعادياً.
قد تقولون ومالنا به؟ هو أيضاً له عيده، زبائنه، واجهات المحلات الصامتة الرخامية، والزبائن الوحيدون، المتوحدون، يدخلون بهدوء (المليان)، لا يفاصلون.. فقط يدفعون من الرزم المسحوبة من الجزادين، رزماً جديدة، مربوطة، والبائع لا يعيد العد بعدهم، فهم يخطئون في الزيادة لا في النقصان..
ثم نشاهد عن حسد أوخبث أو عبث، الداخلين إلى المحلات التي تحمل الأسماء العالية الجودة للماركات العالمية.. يحملون بعد قليل أكياسهم التي تحمل الماركات نفسها.. ليست أكياساً سوداء حتماً.. وبهدوء يضعون البضاعة في المقاعد الخلفية لسياراتهم، ويبتسمون.
أسعار مرتفعة جديدة
يستمر تصاعد الأسعار، قبل الأيام القليلة للعيد.. الحلويات أيضاً من مراسم الأيام الثلاثة التي يتبادل الناس فيها تحية من أربع كلمات «كل عام وأنتم بخير»، ثم شوكولا العيد، فاكهته، وقهوته المرة..
ببساطة (أم أحمد) قالت: «ازداد سعر سمنة الحلوب /2كغ/ إلى /750/ ليرة سورية، والعبوة /1كغ/ إلى سعر 400 ل.س، والحلويات زادت أسعارها من (50 ـ 100/ ليرة للكغ الواحد..
إذن هي من كانت ترتب الحلويات في بيتها.. وهو أفضل حتى الآن.. فبسعر كغ واحد تصنع /3/كغ، من العجوة، المعمول، (كعك العيد)، وقليل من جوز الهند.. وهنا الحسنة الوحيدة أنك تعرف ما تأكل..!
هذا على الأقل في الريف.. في المدينة شوارع عدة، مختلفة ومتنوعة وتعمل على نفس القاعدة السابقة (على قد بساطك)... متوسطو الدخل القلائل يذهبون على الميدان مع جموع الفقراء الذين لهم حصتهم أيضاً..
المتخمون.. المنتفخون.. ببساطة على الهاتف.. مجموعة متنوعة، كيلو غرامات غير محدودة وزناً وسعراً.. وعلى الهاتف.. تصل إلى المنزل، أو يأتي بها السائق.. البقلاوة أقل من/1000/ليرة بقليل للكغ.. والشوكولا متنوعة، وبالآلاف..
على الجانب الآخر.. السكاكر.. وما يعرف بـ(العلاكة) من (35 ـ 70) ليرة للكغ.. الفرق بينهما.. بعد العيد.. يبدأ موسم أطباء الأسنان..
الليالي الثلاث
وهي كما أتوقع ستمر في سيناريو غير هادئ.. للشارع الأول.. ليس المنفوخين حتماً، إنما الضامرة بطونهم بعد صيام شهر (دهر).
سيذهب الأولاد إلى الساحات العامة، ببساطة نريد الذهاب إلى العيد، يريدون (العيدية)، وبالتالي، أراجيح، مأكولات طريق، ركوب حصان، قطار، ومفرقعات لم يستطع أحد منع دخولها.. في المساء، يحمل الآباء أطفالهم إلى الأطباء.
على مدار الثلاثة أيام.. ثمن الفرح الطفولي ليس زهيداً.. والزيارات المتتالية للأهل والأقارب توجب الدفع أيضاً، دفعات متتالية ترهق الجميع.. يخرج الناس بعد ثلاثة أيام بلا شيء..
الشارع الآخر.. المنتفخ.. اللامبالي، يجد في الأيام الثلاثة فسحة لصرف المزيد من المال الكثير، وفسحة للذهاب إلى أقصى الفرح..
هناك من يقضي العيد، على البحر، (الشاليه) المكيف، بالبارد والساخن، الرحلات البحرية، الأسماك المشوية والمقلية، السهرات الطويلة حتى الصباح.. تعويضاً عن سهر ليالي الإيمان وذكر الله.. المشروبات الحلال و(الحرام)، والتسكع المجاني في شوارع المدن البحرية..
هناك من يسافر خارج القطر.. رحلات إلى تركيا، شرم الشيخ، دعوات (صلالة) العمانية، حيث لا مجال لحساب المدفوعات، مع الهدايا التي سيحملها إلى الوطن حيث من ينتظر، نوم وسهر.. وعيد سعيد؟
بين الحالتين.. ثمة فروق كبيرة.. شغب الفقير.. وهدوء الشبعان، والأيام التي ستلي العيد، سيتحول الهدوء المتخم إلى هدوء أكثر تخمة، أما الشغب الفقير.. فسيتحول إلى هدوء خائر قلق خائف..
كل عام وأنتم بخير
أيها الفقراء.. سكان الشارع الأول.. لأنكم تستحقون تلك التحية التي تشبه الدعاء.. والخير هو أن تستطيعوا تأمين لباس جديد للصغار الحالمين بقطعة بلاستيك تحت الوسادة.. وسروال جديد.. وبعض الحلوى لأسنان منخورة.
في ظل الصعب.. الأولويات التي تحارون في تأمينها.. في كل الخوف على لقمة (الخبز) التي تلهثون خلفها ودون انقطاع وبنفس متهالك!!
أما الساكنون القلائل في الشوارع الهادئة المتخمة، فلستم بحاجة إلى التحية.. لأنكم بخير دائم.. وأعوامكم سعيدة.. مَنْ منكم يحار في تأمين أكله ولباسه ومأوى لرأسه..
حتى تاريخه.. مازال بعض الأطفال في شوارع دمشق، يبيعون (علب المحارم)، يتسولون راكبي السيارات الفارهة، وطفلة حافية في شارع الشعلان، هربت من الكاميرا إلى زقاق مجاور.. وطفل يحمل كأس شاي في حديقة عامة لزبون مسترخ.. وآخرون يبيعون الدخان المهرب، ويستوقفك في الحمراء, رجل في السبعين من عمره يطلب ثمن علبة دواء (للربو)..
حتى تاريخه.. يشفّط أبناء الذوات.. بسياراتهم الجديدة التي لم نعد نعرف لها اسماً.. يسيرون في الأماكن الراقية نفسها، ويلبسون سراويل ليست مكتملة، وقمصان ملونة بالشيطان الأحمر... ويرخون شعورهم ومشاعرهم، أما الفتيات الجميلات بظهور مكشوفة، وصرر بيضاء، وشعر ملون بالأحمر والأزرق.. يفرحن ببلاهة، وينظرن إلينا كمواطنين؟؟
حتى تاريخه.. مازال الوطن يتسع لكلا الشارعين، رغم أنه بلا (بردى)، وبلا (غوطة)، وبدخل محدود لأغلبيته لا يسد رمقاً، وبشوارع تشبه القبور.. ومزارع تشبه القصور.. مازال لكم عيدكم أيها المنتفخون.. ولنا عيدنا..
كل عام وأنتم على أمل الخير..
أيها الفقراء.. سكان الشارع الأكبر.. وطني.