الرأي والرأي الأخير
لقد مر مفهوم الرأي والرأي الآخر في مراحل تاريخية مختلفة منذ الحضارة المصرية إلى الإغريقية مروراً بالديانات والمذاهب المسيحية والمانوية والإسلامية فالنهضة الأوروبية, مندرجاً في إطار مفهوم التسامح نقيضاً للتعصب وملازماً للاختلاف, ماراً بمستويات مختلفة، مكتسباً في كل مرحلة مضامين جديدة وأبعاداً أخلاقية وفلسفية وقانونية وسياسية عديدة, وراح ضحيته رجال عظام من سقراط إلى السيد المسيح, ومن الحلاج واللازوردي إلى غاليلو, ومارتن لوثر كينغ, ومن تايلمان وفهد وفرج الله الحلو إلى مظلوم دوغان وموسى عنتر ومهدي عامل وحسين مروة وناجي العلي وكل شهداء ومعتقلي الرأي الحر في كل أصقاع العالم. وهكذا إلى أن اقتحم نوافذ ثقافتنا وخطابنا ومنابرنا المختلفة, انطلاقاَ من ضرورة الانفتاح على الآخر المختلف ونبذا لثقافة الانغلاق على الذات. وإذا كانت الحقيقة مطلقة ومعرفتنا لها نسبية فلا أحد يحتكرها وفي إطار السعي إليها لابد من احترام الرأي الآخر بوصفه حقا طبيعيا للتعبير عن الذات وما يمكن أن ينتج عبر التلاقح, من آراء و أفكار جديدة تشكل بدورها مولوداً فكرياً جديداً تتكون عناصره من جينات الطرفين الفاعلين في تكوينه, وهكذا بات مستوى التعامل مع هذا المفهوم معياراً لأنستنا وتمدننا وديمقراطيتنا, وبالفعل فأن أكثر الناس استبداداً وأعتى الديكتاتوريات تتعامل مع الآراء المتفقة مع مصالحها و طغيانها على أنها آراء جيدة وقيّمة يجب احترامها ويمكن الأخذ بها. إن العقل الموصود لا يجلب لحامله إلا الخريف الأبدي وإعلان الموت المبكر لأفكاره, ومن هنا تبرز الحاجة الموضوعية إلى إتقان فن الحوار واحترام حق الآخر في التعبير. ولكن أي حق وأي آخر؟.