من يملك التاريخ؟

في كثير من الأحيان تتطور المعركة ضد قوى التكفير والأصولية إلى معركة ضد التراث برمته، بما يجعل من هذا الأخير هدية ثمينة تقدم على طبق من ذهب للتكفيريين، ليصبح التاريخ ملكهم، وليصبحوا ممثلين عن هوية المنطقة، وحرّاساً لثقافتها. وهذا المطب وقع ويقع فيه الكثير من العلمانيين واليساريين السابقين ممن يعانون من قصور معرفي في هذا الميدان، الذين لم تسعفهم تجربتهم في التقاط الجوانب التقدمية في تراثنا، والتي تولى مهمة إيضاحها العلامة الشهيد د.حسين مروة، بالمعنى النظري والمنهجي، والتراثي هادي العلوي بالمعنى العملي..

يعيد مروة قراءة التاريخ بطريقة علمية، مستنداً في ذلك إلى المنهج المادي التاريخي، فيجعل منه متحركاً، بعد أن قيدته نظرات المستشرقين والسفليين ووصمته بالسكون، فيقول مروة إن التاريخ واحد كمعطى موضوعي لكنه متعدد كقراءة، وهويختلف وفقا للمنهج المتبع في قراءته، وهويتجدد مع تطور المعرفة المستمر كماً ونوعاً، ليتمكن بذلك من إبراز «النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية». وقد فتحت القراءة الجديدة التي أتى بها مروة الباب واسعاً أمام هادي العلوي لكي يلتقط الجوانب التقدمية في التراث العربي الإسلامي التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بواقعنا المعاصر وبسبل تطوره تقدميا، فأخرج العلوي من تراثنا الكثير من الكنوز على المستوى السياسي والفكري، كالمشاعية والمعارضة السياسية والعلاقة بين الحاكم والمحكوم..ألخ. أي أن الشيخين استطاعا إعادة التراث لأصحابه الأصليين، حملة البرنامج السياسي والثقافي، الوطني والتقدمي، وبذلك أعادا الاعتبار إلى القوى التقدمية كقوى ضاربة في التاريخ، ووريثة شرعية لأبرز جوانبه المضيئة، وليست قوى دخيلة أومغربة عن مجتمعاتها..

من جانب آخر، يتفق السلفيون مع أصحاب برنامج التغريب- تطبيق النموذج الغربي- على قضية واحدة هي أن التراث كان ظلاما بظلام، ويختلفون بين مؤيد ومعارض له على أساس هذا التوصيف، فيؤيد السلفيون البرنامج الظلامي على أنه  تراث، بينما يرفض المغربون التراث على أنه ظلام، ويستعيضون عنه بالنموذج الغربي. وأمام التواطؤ التاريخي الذي يشهده العالم بين الغرب والتيارات التكفيرية والسلفية، وتطابق البرنامج الاقتصادي الاجتماعي للسلفيين والمغربين، يتضح بجلاء أن هذين الطرفين وجهان لعملة واحدة في نهاية المطاف، على الرغم من التناقض الشكلي الحاد بينهما.

بينما يقف البرنامج الوطني التقدمي على نقيض السلفية والتغريب على حد سواء، بوصفهما برنامجاً واحداً، ويعيد النظر جذرياً في الموقف من التراث، ويتعامل معه بما يخدم التقدم اللاحق لشعوب منطقتنا. ومن هنا جاء وصف د. حسين مروة لإشكالية الفكر العربي المعاصر الأساسية بأنها تتمثل بالموقف من التراث، إذ أن الانتصار على السلفية والتغريب، النقيضين اللذين يسعيان باستمرار إلى عناق بعضهما، يتطلب موقفا متوازنا من التراث التقدمي لمنطقتنا الذي لم يعد حكرا على هذه الفئة الضالة أوتلك..