حسين ابراهيم حسين ابراهيم

الرأي والرأي الأخير

لقد مر  مفهوم الرأي والرأي الآخر في مراحل تاريخية مختلفة منذ الحضارة المصرية إلى الإغريقية مروراً بالديانات والمذاهب المسيحية والمانوية والإسلامية  فالنهضة الأوروبية, مندرجاً في إطار مفهوم التسامح نقيضاً للتعصب وملازماً للاختلاف, ماراً بمستويات مختلفة، مكتسباً في كل مرحلة مضامين جديدة وأبعاداً أخلاقية وفلسفية وقانونية وسياسية عديدة, وراح ضحيته رجال عظام من سقراط إلى السيد  المسيح, ومن الحلاج واللازوردي إلى غاليلو, ومارتن لوثر كينغ, ومن تايلمان وفهد وفرج الله الحلو إلى مظلوم دوغان وموسى عنتر ومهدي عامل وحسين مروة وناجي العلي وكل شهداء ومعتقلي الرأي الحر في كل أصقاع العالم. وهكذا إلى أن اقتحم نوافذ ثقافتنا وخطابنا ومنابرنا المختلفة, انطلاقاَ من ضرورة الانفتاح على الآخر المختلف ونبذا لثقافة الانغلاق على الذات. وإذا كانت الحقيقة مطلقة ومعرفتنا لها نسبية  فلا أحد يحتكرها وفي إطار السعي إليها لابد من احترام الرأي الآخر بوصفه حقا طبيعيا للتعبير عن الذات وما يمكن أن ينتج عبر التلاقح, من آراء و أفكار جديدة تشكل بدورها مولوداً فكرياً جديداً تتكون عناصره  من جينات الطرفين  الفاعلين في تكوينه, وهكذا بات  مستوى التعامل مع هذا المفهوم معياراً لأنستنا وتمدننا وديمقراطيتنا, وبالفعل فأن أكثر الناس استبداداً وأعتى  الديكتاتوريات تتعامل مع الآراء المتفقة مع مصالحها و طغيانها على أنها آراء جيدة وقيّمة يجب احترامها ويمكن الأخذ بها. إن العقل الموصود لا يجلب لحامله إلا الخريف الأبدي وإعلان  الموت المبكر لأفكاره, ومن هنا تبرز الحاجة الموضوعية إلى إتقان فن الحوار واحترام حق الآخر في التعبير. ولكن أي حق وأي آخر؟.

إن التمعن في هذا المفهوم ومتابعة مستويات  ممارسته لا يبدو ساريا بصورة  بريئة كما يبدو في الوهلة الأولى, بل إنها أكثر  إشكالية وتعقيداً, ويضعنا أمام قضية يمكن طرحها على أكثر من صعيد, على مستوى الدول والجماعات والأفراد, بين المراكز والأطراف وبين الثنائيات المتناقضة والمتناحرة ومستويات الوعي الاجتماعي  وغيره.. آخذين بالحسبان المحددات الظرفية الزمانية والمكانية...الخ. 

فالبعض يصر على تبني هذا المفهوم وممارسته انطلاقاً من فهم ما ذكر أعلاه، وهم غالبا من المحكومين. ويردده البعض الآخر  كعبارة  لغوية إلى جانب عبارات أخرى شبيهة, كالنقد البناء أو حق الاجتهاد أو حق الاختلاف, خضوعاً أو مسايرة لثقافة الموضة, أو ذكاءً سياسياً, فيسعى جاهداً لإحضار  آخر منفعل لتحقيق ذاته من خلاله  فيلجأ إلى منح هذا الآخر الهلامي حقه في الكلام، ويحتكر لنفسه حق القرار والتصرف بوصفه  الأول المركزي الذي يمتلك زمام المبادرة والقوة القاهرة، فيتحول الرأي الأول إلى الرأي الأخير الحاسم والمفصلي, وبالتالي تتحول العملية  برمتها إلى غش وخداع, أو تحايل على تواترات الزمن والوعي الاجتماعي.  

إن احترام الرأي الآخر لا يعني الأخذ به بالضرورة, إنما ينطلق من ضرورة التفكير التفاعلي الحر مع حيثياته ومعطياته, وعدم تهميشه أو إقصائه, وصولاً إلى الاعتراف بصوابيته اذا ثبت صحته.

إن الدعوة إلى احترام الرأي الآخر لابد أن يترافق مع احترام مصالح الآخر وحقه في الحياة الكريمة وإيجاد البيئة الضرورية لحضوره وحيويته وتنميته, فكيف لآخر أن يعبر عن ذاته وهو المغيّب سلفاً بموجب قوانين صماّء, أو المرهق بأعباء الحياة اليومية ومشقاتها، وما يعانيه من حالة اغتراب واستلاب شديدة بفعل قوى الإقصاء الكبرى المتمثلة بمراكز السلطة و الثروة, فلتحقيق ذلك لابد أن تتوفر فرص متكافئة للطرفين على قاعدة المساواة التامة وهذا لا يتحقق إلا في ظل  مجتمع العدالة الاجتماعية  الذي يلبي حاجاته المادية والروحية.

إن مبدأ الرأي والرأي الآخر يمكن  أن يمارس في اللحظة التي تستدعيها الحاجة الموضوعية الأساسية  في إطار حوار حر ومسؤول حول موضوع محدد أو قضية معينة بين مجموعة من الناس تجمعهم قضايا وأهداف ومصالح مشتركة، ولا يسري مفعوله بين مجموعات ذات مصالح متناقضة بوعي مسبق يفضي إلى صراع تناحري في نهاية المطاف, وإلا كيف لمظلوم أن يحترم رأي ظالميه، أو لكادح أن  يحترم رأي مستغليه؟. ولمقاربة الموضوع أكثر كيف بقوى الشعوب المقهورة أن تقبل بنهب ثرواتها وانتهاك كرامتها وقمع حرياتها من جانب قوى الغطرسة والعنجهية المتمثلة بالإمبريالية المتوحشة وربيباتها الكمبرادور المحلي الأرعن وقوى الفساد الكبرى، التي تستبيح الآخر وتفرض أجنداتها ومصالحها وأنماطها الاقتصادية والثقافية؟ واستطراداً نقول:  كيف لـ99% من البشر الذين يستحوذون  فقط  على31 % من ثروات وأموال العالم أن يحترموا 1% من البشر الذي يستحوذون على 69% من هذه الثروات.