ليلى نقولا الرحباني ليلى نقولا الرحباني

هل يمكن إسقاط النظام الطائفي في لبنان؟

بلا شك لا يتصور حتى أكثر المتفائلين في قيادة التظاهرات المطالبة بإسقاط النظام الطائفي في لبنان بأن السقوط سيكون سريعًا، وأن مجرد نزولهم إلى الشارع سيجعل من تمرسوّا في قيادة هذا النظام وإدارة اللعبة الطائفية في لبنان يتخلون عن عروشهم لدولة مدنية.

تاريخيًا، شكّل الكيان اللبناني ساحة صراع تتنافس فيها الدول الكبرى المسيطرة على المنطقة وتتبادل الرسائل عبرها، وقد أدخلت الطوائف الدينية اللبنانية ومذاهبها المختلفة في شبكة نفوذ تلك الدول مبكراً منذ عهد السلطنة العثمانية وما بعدها. وقد تدخلت الدول الكبرى في شؤون الإمبراطورية العثمانية بذريعة حماية الأقليات الدينية، فروسيا القيصرية مثلاً حمت الطائفة الأرثوذكسية، وفرنسا حمت الطائفة المارونية، والإمبراطورية النمساوية حمت الروم الكاثوليك، والإنكليز حموا الدروز، أما السلطنة العثمانية فحمت الطائفة السنّية.

ومنذ تلك الفترة وحتى يومنا هذا انتشرت ثقافة سياسية زبائنية عُرفت بـ«ثقافة القناصل» الذين استخدموا «الأعيان والوجهاء» لتكريس نفوذهم، والتدخل في الشؤون اللبنانية، وتحريض الطوائف على بعضها البعض، وهو ما ينبئ بأن ثقافة النميمة والاستعانة بالخارج ضد الفرقاء الداخليين الذي أكدته وثائق ويكيليكس هو ثقافة موروثة، تدخل في جينات تلك الطبقة السياسية التي تتوارث النظام اللبناني جيلاً بعد جيل.

وهكذا، ومع تأسيس الكيان وإعلان الدولة، تنازلت الدولة عن صلاحياتها للطوائف، أو بالأحرى إن الطوائف التي سبق وجودها وجود الدولة أسست دولة هشّة ومحدودة القوة وتركت لنفسها الكثير من الاستقلالية والصلاحيات المفترض بالدولة الاضطلاع بها. وهكذا قامت علاقة عكسية بين سيادة الدولة وقوة الطوائف في لبنان، فكلما زادت قوة الطوائف تقلصت سيادة الدولة والعكس بالعكس.

وهكذا حوّل الصراع الدولي على أرض لبنان، والذي اتخذ شعارات «غلبة الطوائف لبعضها» أو «خوفها من بعضها البعض»، حوّل الدولة إلى مجرّد حَكَم في صراع الطوائف فيما بينها، وهو في الحقيقة والواقع «صراع الدول الحامية لتلك الطوائف». واتخذت الطوائف من خوفها ذريعة لتكريس نظام وصاية على الدولة ومواطنيها، وصاية كرستها من خلال نظام المحاصصة الطائفية الذي بدأ مؤقتاً عام 1943 وتحول إلى عرف دائم، كرّسه الدستور بعد التعديلات التي أقرّت عام 1990 بناءً على اتفاق الطائف.

جعل نظام المحاصصة هذا، الدولة مساحة لتحاصص الطوائف المختزلة بزعمائها، وجعل التناقضات والصراعات بينهم تأخذ طابعاً طائفياً ومذهبياً مقيتاً، فتعيق عمل السلطة، وتعرقل بناء دولة القانون والمؤسسات، وتفتح المجال لاستخدام الدين و«الخوف على الوجود والمصير» غطاءً للولاءات غير الوطنية، والاستقواء بالخارج لقلب موازين القوى الداخلية لصالحها، ولحماية وتفشي الفساد والفاسدين وانتشار الزبائنية، وإنتاج فتن وحروب أهلية متكررة، وجعل لبنان ساحة مفتوحة لصراع تتداخل فيه العوامل الخارجية مع الداخلية، فتضعف سيادة الدولة الخارجية والداخلية المنقوصة أساساً.

وهكذا تحولت الطائفية إلى نظام حياة الشعب اللبناني بأكمله، تخترق بناه الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية وتدخل في تركيبة مؤسساته، وتخترق أحزابه وإعلامه ومدارسه وجامعاته، وتدخل في نسيج تكوين الفرد والمجتمع كما في نسيج الدولة.

اليوم، وتزامنًا مع شعار التغيير وإسقاط الأنظمة المنتشر في العالم العربي، طرحت بعض القوى اللبنانية شعار «إسقاط النظام الطائفي»، داعية الشباب اللبناني إلى اللقاء في الساحات للتعبير عن سخطهم من الحالة التي أوصلهم إليها «نظام المحاصصة الطائفية في لبنان»، ممنين النفس بأن تشكّل التظاهرات وعياً اجتماعياً وخلق بيئة مناسبة للتغيير.

بشكل عام، هناك قوى عدة تتضرر من سقوط نظام المحاصصة الطائفية في لبنان، ولا بد من تحديدها لمعرفة ما الذي يمكن أن يواجهه هذا الشباب الثائر:

- الإقطاع السياسي وزعماء الحروب الطائفية الذين تحوّلوا إلى سياسيين، وهؤلاء تمدهم الحالة الطوائفية في لبنان بذخر استراتيجي كبير لممارسة نفوذ على الطوائف وادعاء التكلم باسمها للسيطرة على الدولة ومرافقها، وتعبئة المناصرين وتجييش الناخبين باسم الدفاع عن الطائفة والدين وحمايتهم من «الآخر».

- نظام التبعية والعمالة، الذي يتفشى في معظم الطوائف اللبنانية بدون استثناء، والذي يستخدم الحالة الطائفية والمذهبية مبرراً لعمالته، وفي كثير من الأحيان، يجد هؤلاء في المتكلمين باسم الطوائف من الفئة الأولى حامياً ومنجياً من العقاب.

- نظام الفساد المستشري في جميع هيكليات الدولة ومرافقها، وفي القطاعين العام والخاص. هؤلاء يجدون في الحالة الطوائفية ملاذاً وداعماً، خاصة عندما يصبح المساس بهم، مساساً بالطائفة بأكملها.

- طبقة أصحاب الصفقات من رؤوس الأموال، التي تحالفت مع الفئات السابقة وسيطرت على الدولة ومؤسساتها، خاصة بعد انتهاء الحرب الأهلية في التسعينيات. تستخدم هذه الفئة التعابير الطائفية حجاباً للتستر على سرقتها للمال العام من خلال السياسات المالية التي أفقرت الشعب وجوعته، ورهنته ورهنت مصيره لأجيال مقبلة عدة.

من هنا، فإن الداعين لإسقاط النظام الطائفي في لبنان، عليهم أن ينتقلوا إلى إستراتيجية أشمل من المسيرات الجوالة وشعاراتها، إستراتيجية تقوم على تقويض أسس النظام التي أوردناها أعلاه تمهيداً لإسقاطه. إستراتيجية تقوم على البدء بدك أسس الفساد والإفساد من خلال كشفهم وتعريتهم، والمطالبة بمحاكمتهم، ومحاكمة جميع العملاء، والمطالبة بإنهاء جميع سياسات التمييز المجحفة، وإنهاء ثقافة العفو العام والخاص وطمس الحقائق وتعمية الرأي العام.

وهكذا، لا يمكن لنظام المحاصصة الطائفية أن يسقط، دون اقتناع تامٍ بضرورة العيش معاً كمواطنين تامّين، نستمد حقوقنا من مواطنيتنا وليس من كوننا رعايا هذه الطائفة أو تلك. وذلك من خلال العمل على ترسيخ فكرة الانتماء الوطني: أي تحرير الوطن اللبناني من مشنقة الطائفية والمذهبية الملتفة على عنقه، وذلك من خلال إعادة الاعتبار إلى المفهوم العالمي الذي يحدد مفهوم الوطن بوجود شعب مكوّن من أفراد قاموا بعقد اجتماعي فيما بينهم وارتضوا العيش معًا ضمن إقليم معين، ما يسمح بإحلال الانتماء الوطني مكان الانتماء الطائفي، مع الإبقاء على حرية العقيدة والإيمان الديني والتدين. ويعني هذا في ما يعنيه اقتناع تام بأن لا مفر لنا من العيش معًا، كما نحن بجميع تلاويننا الدينية وأن لا قدرة لطائفة ما مهما كبرت أو علا شأنها بأن تلغي الآخرين ليتنعم النافذون فيها بمغانم السلطة وحدهم، حاجبين لقمة العيش عن أبناء دينهم ومذهبهم قبل أن يحجبوه عن الآخرين.

 

■ عن «كنعان الالكترونية»