جغرافيا الإهمال
وراء الجغرافيا الطبيعية ثمة جغرافيا أخرى، جغرافيا نفسية، تشكلها السياسة والثقافة والمكان والمكانة.
وهي تتطابق مع الجغرافيا الأولى أحياناً، وتتنافر معها أحياناً أخرى. كما أنها تعكس الإحساس الأعمق بالمكان والمكانة والتاريخ معا. والجغرافيا النفسية للفلسطينيين، كما تنعكس في نتاجهم الثقافي، هي جغرافيا الثغر المهمل، التي اختصرها محمود درويش في قصيدة «أحمد الزعتر» بجملة واحدة: «آه يا وحدي وأحمد»، ثم تحوّلت على لسان الناس في الشارع إلى: «يا وحدنا». وإذا كان إحساس الفلسطينيين بـ «الترك» و»الإهمال» و»تخلي» إخوتهم العرب عنهم، هو الذي شكل هذه الجغرافيا، فإنّ هذه الجغرافيا تجد لها مستندات ثقافية تستند إليها. أو قل إنها تؤصِّل نفسها عبر البحث عن هذه المستندات. فمثلا هناك شبه إجماع على «الموقع الطرفي» لفلسطين ثقافيا في بلاد الشام، إضافة إلى موقعها الطرفي جغرافياً. وهكذا فـ «ثقافيا» نحن أيضا «ثغر مهمل» بعيد يستقبل ولا يرسل، ينتظر المدد ولا يرسله. سياسياً، كذلك، فالفلسطينيون ليسوا مركزاً من المراكز العربية الرئيسية الفاعلة. إنهم مركزيون فقط كمشكلة. ففلسطين هي «قضية العرب المركزية»، بمعنى «مشكلة» العرب المركزية. دينياً، أيضاً، فلسطين أبعد ما تكون عن الوسط والمركز. إنها، أيضاً، ثغر بعيد. فهي القبلة الأولى، التي تُركت لمصلحة قبلةٍ أشد أهمية وأكبر خطراً وأثرا. هي القبلة التي كانت ثم ألغيت. هي أيضا «المسجد الأقصى»، أي أقصى ما يكون عن المركز الديني. إنها هناك في الأطراف مهدّدة بالدّمار. هي فوق هذا كله «ثالث» الحرمين الشريفين. والحج يكون صالحاً من دون «تقديسه» عند الحرم الثالث. وحين ينظر الفلسطيني إلى مهاويه الثقافية، فإنه لا ينظر إلى ذاته. إنه ينظر إلى القاهرة، إلى دمشق، وإلى مكة. فلكي يكون ما هو عليه أن يرمي ببصره خارج فلسطين. في حين أن المصري مثلاً يستطيع أن ينظر ببصره إلى الداخل والخارج إذا أراد أن يكون هو. هذا الإحساس بالبعد والإقصاء، والشعور بعدم القدرة على الوقوف بالذات وعبرها فقط، يتقوّى عبر السياسة. فبسبب عدم قدرة الفلسطيني على كسر هجمة الأعداء التي تفوقه قوة يرغم على أن يطلب الغوث من أشقائه في كل لحظة، إلاّ أن الغوث لا يصل غالباً. وهنا تحصل الخيبة والإحباط. ومن تتابع الأمل والخيبة ينهض مزاج انتماء ولا انتماء. مزاج يذوّب الذات في محيطها مرة، ويفصلها عنه بحدة مرة أخرى. وضمن هذا التمزّق الدائم تبدو الهوية الفلسطينية رجراجةً. فهي على استعداد للتخلّي عن ذاتها والاندماج في المحيط في لحظات، لكنها تعود وتنكفئ على هذه الذات في اللحظات المضادة. إنها لا تستطيع، بسهولة، أن تجد حلاًّ بين الانسياح وبين الانكفاء. عدم الاستقرار هذا يوّلد مناخاً عميقاً يعكس نفسه على الإنتاج الثقافي كله، مناخاً يمتاز إما باليأس أو التفاؤل، اللذين يجري نشرهما بالتتابع، ويغطّيان الإنتاج الأدبي والفني ولا يمنحانه فرصة التحليق فوقهما. يرتبط بهذا ما يمكن أن أدعوه بـ «نفسية الخسران». فبسبب التمردات والثورات التي لا تنتهي إلى تحقيق ما يريد الفلسطينيون، أو توصل إلى الفشل، فإن هذا الشعب لا يعرف طعم الانتصار. وحتى الانتصارات التي يتغنى بها فهي انتصارات ملتبسة. إذ يمكن أن تحسب كهزائم، وهناك تعريف مشهور للثورة ابتدعه أحد الزعماء الفلسطينيين في السبعينيات يقول «الثورة هي عبارة عن تتالي النكسات… حتى النصر النهائي.» وقد قدّم محمود درويش – كعادته في تقديم الصياغات المكتملة – الصياغة الناجزة لهذا الوضع النفسي في حوار له مع مجلة مشارف حين قال «أنا منحاز تماماً للخاسرين…» مضيفا «أختار أن أكون طروادياً، لأنني أحبُّ أن أبقى ضحية». والحال أن الطروادي الدائم يختار ما اختير لـه. فالفقراء لا يختارون وإن بدا لهم أنهم يفعلون.