من الذاكرة: فتّش.. يفتّش.. تفتيشاً

كلما عدت بالذاكرة إلى تاريخ حزبنا الذي عشت في ميدانه ومازلت قرابة ستين عاماً، وقفت بكل الاعتزاز والاحترام أمام هذا الصرح المجيد الذي أشادته السواعد الكادحة الوطنية ــ لبنة لبنة ــ ونسجت الأفكار العلمية لحمته، فجابه الرياح العاتية والهجمات الضارية...

إنه تاريخ مشرف، ومنهل استقت منه أجيال الشيوعيين وأصدقائهم أعذب العطاء، واستمدت منه العزيمة والإصرار والنزاهة في خدمة الشعب والوطن.. ومن المناضلين الذين سطروا في سجله سطوراً مضيئة، مدادها جهود لا تعرف النضوب، وتضحيات عز مثيلها، تسطع أسماء المئات من المعلمين الذي انحازوا ــ قولاً وفعلاً ــ إلى الجماهير الشعبية، فحملوا همومها، كافحوا بكل تفان دفاعاً عن حقها في الحياة الحرة العزيزة والسعيدة والكريمة... إنهم مشاعل أزاحت الظلمة وأضاءت درب النضال لعزة وحرية وتقدم سورية وباستعراضنا بعضاً من أسمائهم وفاء لهم واعترافاً بدورهم في أحلك الظروف وأقساها، فإننا نهدف إلى إحياء ذكراهم، وليعذرني القراء الأعزاء إن لم أستطع الإحاطة بذكر كل من يجدر أن يذكروا، لاستحالة ذلك علي وحدي.. فهذا دورنا جميعاً، فكل منا يعرف العديد من أسماء المعلمين في حيه أو قريته أو مدينته وسيتذكرهم الآن.. وحسبي أن أذكر أسماء معلمين عشت في كنف رعايتهم أو حضورهم في حارتي التي نشأت وعشت فيها أمثال الأساتذة: عبد الكريم محلمي وسعيد ميرخان وعبد المجيد قاسو وسعيد سكر وخالد الكردي وعدنان قره جولي وعبد الوهاب كيكي وأحمد آل رشي وعبد اللطيف ويوسف شيخو وعدنان جلّو ونذير جزماتي وعبد الرحيم الأيوبي وعادل الملا وزهير ناجي وصلاح زلفو ومحسن أيوبي وستيركو ميقري ونزار العكش وصياح برازي وعصام يونس وحسام رمضان ولينين عودة و.. ألف تحية لجهودهم التي أنبعت خيراً وعطاءً.

وبصحبتكم سننتقل إلى جانب آخر من ذكريات المدارس والمعلمين، وبالتحديد إلى بعض ما مر معي بعلاقتي بالمفتشين التربويين وكدأبي في العمل فقد كنت ملتزماً بوعي وإخلاص بهذه المهنة الرائعة، وحريصاً على احترام الدوام المدرسي فلا تغيب ولا تأخر، أدخل قاعة الدرس مع دخول الطلاب وأخرج بعد خروجهم، وفي مرة فريدة وكنت أسكن حينها في قرية حرستا على بعد ثلاثة عشر كيلو متراً من دمشق ومدرستي في حي السمانة قرب شارع بغداد، وذلك في أوائل ستينيات القرن الماضي.. في تلك المرة تأخرت عشر دقائق عن بدء الدوام في مدرسة ابن عساكر، وصادفت وجود المفتش الذي لم يقتنع أنها  المرة الوحيدة التي تأخرت فيها، على الرغم مما قدمه مدير المدرسة الأستاذ جورج رباط وزملائي المعلمون من إيضاح لحقيقة الأمر، واكتفيت عندها بقولي له: هذه أول مرة أتأخر فيها.. صدق أو لا تصدق.. فهذا شأنك!.. وفي عام 1967 زارنا المفتش الأستاذ فريد جحا ــ وهو من هو أستاذ كبير وفاضل وقدير ــ في ديرالزور، وسألني بعد حضوره لأحد دروسي أن أذكر له بعض «الطرائف» مما مر معي في عملي مع الطلاب، فهو في صدد إعداد كتاب عن ذكريات التعليم، فقلت له: أطرف ما مر معي أن طلاب هذا الزمان عجيبو الطباع والتصرف، فهم لا يدعون وقتاً لو لدقائق لمعلميهم ليناموا في الصف خلال إلقاء الدروس!! فقال لي مندهشاً: أنت لا شك تمزح! فقلت له: طبعاً أنا أمزح

وفي بلدة جرابلس على الحدود السورية التركية زارنا في الثانوية المفتش الأستاذ محمد الخطيب الذي أصبح فيما بعد وزيراً للتربية والتعليم وبعد حضوره درساً لي، دخلت معه في جدال حول جانب من منهاج الصف الحادي عشر، فيما يحض ترتيب الدروس.. فكان هو مع المنهاج كما هو.. يبدأ بسمات الأدب ثم تأتي النصوص كشاهد على ذلك! بينما خالفته الرأي.. فأنا أرى أن الأصح أن نبدأ بالنصوص ثم نستخلص السمات وهذا أصح وأكثر فائدة.. و«لعل» هذا الجدال قد أثر سلباً في تقييمه لأدائي لأنه رآه رأياً «آخر».

وعلى «سيرة» التعليم والمتعلمين مازالت في الذاكرة حكاية طريفة تروى عن معلم عانى ماعاناه في تدريسه، فقد وردت إلى مديرية التربية شكوى بأنه يضرب طلابه وأنه «عض» أحدهم، فما كان من المديرية إلا أن أرسلت بأحد مفتيشها الأشداء إلى مدرسة ذلك المعلم ليقف على حقيقة ما يجري، وعندما دخل إلى الإدارة فاجأه أن المعلم المشكو منه شاب نحيل يفيض طيبة وحيوية «على عكس ما كان في تصوره» فطلب منه أن يحضر معه درسه فرحب المعلم بكل احترام ودخلا الصف، وكانت المادة المقررة للدرس: إملاء كلمات على الطلاب ليكتبوها على دفاترهم وبعد أن كتب المعلم الكلمات المطلوبة على السبورة بدأ بقراءتها ليردد بعده الطلاب قراءتها.. وكان يركز على لفظ الحروف لترسخ في أذهانهم وبعد تردادها سأل طلابه: من يقرؤها بشكل صحيح، فارتفعت الأيدي، فأشار إلى أحدهم أن يقرأ فقرأ وأخطأ في بعض الكلمات فبادر المعلم مجدداً لتصحيح القراءة.. وقال يا أبنائي هذا الحرف هو حرف الجيم.. وعندما سأل ثانية من يقرأ تكرر الخطأ.. فما كان من المفتش إلا أن قال للمعلم: يا أستاذ هؤلاء طلاب صغار، عليك «بالنزول» إلى مستواهم.. فقال المعلم: مفتشنا الفاضل.. هلا تفضلت «بتعريفي» كيف يكون ذلك؟ فتقدم المفتش وكتب على السبورة بعض الكلمات وكتب حروف الجيم الواردة فيها باللون الأصفر ليتوضح ذلك أمام عيون الطلاب.. وقرأ الكلمات والطلاب يرددون معه قراءتها.. ثم سألهم عن الحرف المكتوب باللون الأصفر: من يلفظه بشكل صحيح.. فارتفعت الأيدي.. واختار أحدهم أن يجيب فقال هذا حرف الميم فقال المفتش: هذا حرف الجيم يا ابني! ثم سأل طالباً آخر أن يلفظه فقال بعد تردد هذا حرف الغين! فالتفت المفتش إلى المعلم وقال له: أستاذ بتعضو إنت.. وللابعضّو أنا!!!