افتتاحية قاسيون 1250: الاعتراف بالخطأ فضيلة... والتراجع عنه فضيلة أكبر!
لم يكن قرار رفع أسعار الكهرباء الذي أعلنته وزارة الطاقة مؤخراً سوى إعلان صريح عن السير في الطريق المعاكس تماماً لمصالح السوريين، وعن الاستمرار في المنهجية التي أثبتت الوقائع مراراً وتكراراً أنها لا تقود إلا إلى الخراب: رفع الأسعار قبل رفع الأجور بشكلٍ حقيقي، وتحميل الفقراء كلفة ما دمرته السياسات الخاطئة التي تراكمت عبر عقود ولا تزال مستمرة حتى اليوم.
إن أي خطوة من هذا النوع، قبل إيجاد حل فعلي لمشكلة ضعف الأجور والقدرة الشرائية للسوريين، لا يمكن وصفها إلا بأنها مقامرة جديدة بالاستقرار الاجتماعي الهش أصلاً في سورية؛ فحين يصبح ثمن الكهرباء في الدورة أكثر من الحد الأدنى الرسمي للأجور، فهذا يعني ببساطة أن الكهرباء لم تعد خدمة عامة بعد الآن، بل سلعة محصورة بالمقتدرين وحدهم، وأن الغالبية الساحقة من السوريين الذين يعيش أكثر من 90% منهم تحت خط الفقر، سيُدفعون قسراً نحو مزيد من التهميش والعتمة.
المنهجية التي تقف خلف القرار أشد خطراً من القرار نفسه. حيث جرى ولا يزال يجري التعامل مع الوضع الاقتصادي بمنطق حسابي سطحي، وضيق أفق يُعيد إنتاج الدائرة المفرغة ذاتها: الدولة ترفع الأسعار بحجة تغطية عجزها المتراكم بفعل السياسات الاقتصادية السابقة والحالية، والتي جففت بطرقٍ مختلفة مصادر الإيرادات غير التضخمية، فيضعف الطلب، وتتوقف عجلة الإنتاج أكثر، فيزداد العجز من جديد، وتُرفع الأسعار مرة أخرى، ودائماً من جيوب فقراء السوريين.
ولا بد من الإشارة إلى أن أي تراجع جزئي عن هذا القرار لن يكون سوى تراجع وهمي، عبر خفض شكلي للأسعار تحت ضغط الغضب الشعبي والإعلامي الذي يتصاعد اليوم، بينما يبقى جوهر المشكلة كما هو. فبهذه الطريقة يمكن أن تقدَّم الخطوة القادمة بوصفها «استجابة لمطالب الناس»، لكنها في الواقع ليست سوى تثبيت تدريجي للتسعيرة التي كانت موضوعة مسبقاً. ولهذا، فإن «التراجع الحقيقي» يعني إلغاء القرار كلياً، لا إعادة صياغته بأرقام جديدة.
التراجع الكامل عن الخطأ ليس ضعفاً، بل فضيلة سياسية ووطنية. والاعتراف بهذا الخطأ هو بداية الطريق نحو تغيير المسار الاقتصادي المدمِّر، الذي لم يعد يحتمل ترقيعاً أو تأجيلاً جديداً. فرفع الأسعار قبل رفع الأجور بحيث تكون قادرة على تغطية الضرورات الأساسية للحياة، هو كمن يبني السقف قبل الأساس، والنتيجة الحتمية لذلك هي انهيار البناء فوق رؤوس الجميع.
المطلوب اليوم، ليس «تعديل التعرفة» التي صدمت السوريين وأثارت غضبهم، بل التراجع الكامل عنها، وتغيير منهجية السلطة الساقطة التي استمرت في تحميل الأعباء إلى من لا يملكون شيئاً، وتقديم إعفاءات وتسهيلات سخية لمن يملكون كل شيء.
الاقتصاد المنشود في سورية لا يمكن أن يبنى بتحميل الشعب السوري عذابات جديدة، بل عبر التغيير الجذري لمنظومة الأجور والتوزيع العادل للثروة الوطنية. وقد أثبتت العقود الماضية، أن أي «إصلاح» يبدأ من جيوب الناس لن يؤدي إلا إلى مزيد من الفقر والانقسام والمخاطر الأمنية. لذلك، فإن الخطوة الوطنية الوحيدة الممكنة اليوم هي التراجع الكامل عن القرار، وفتح نقاش عام حول سياسة الدعم والأجور، بوصفها مسألة وطنية تمس بقاء السوريين معاً على أرض واحدة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1250