هل عدنا إلى »محاربة الفساد«؟
أثار تقريران لوكالة رويترز حول الاقتصاد السوري في مرحلة ما بعد الأسد، قدراً كبيراً من التساؤلات والنقاشات؛ التقرير الأول نُشر بتاريخ 25 تموز الماضي وحمل عنوان «تقرير خاص سوريا تعيد هيكلة اقتصادها سراً... وشقيق الرئيس يقود المهمة». والثاني نُشر يوم الجمعة الماضي 31 تشرين الأول وحمل عنوان «عن كثب-لا غنائم حرب... الشرع يطبق القانون على الموالين».
ورغم أنه من المعروف تماماً أن وكالة رويترز هي مثال نموذجي على الألعاب السياسية العميقة تحت قناع الحيادية والاستقصاء، (الألعاب السياسية التي يمكن لها أن تلعب أدوار ضغط سياسي غير مباشر، وأحياناً أدوار تلميع وتشجيع ضمن الأسلوب الذي سمته العرب قديماً المديح في معرض الذم)... رغم ذلك كله فإن المشترك بين التقريرين، وبغض النظر عن مدى دقة ما جاء فيهما، هو الحقيقة الواضحة المعروفة، المتعلقة بغياب الشفافية في التعامل مع الشأن الاقتصادي السوري من جهة، ومن جهة أخرى، بأن عملية إدارة الاقتصاد وموارد البلاد تتم بعيداً عن أي رقابة شعبية أو سياسية، وتجري وفق ما تراه السلطة مناسباً، وعبر دوائرها الضيقة على الخصوص.
بالتوازي مع التقرير الأخير، انتشرت حكاية مشوقة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تتحدث عن اجتماع جرى في إدلب مؤخراً وترأسه الرئيس الانتقالي، وفيه -وفقاً للحكاية- تم توجيه تهديد عالي اللهجة للمسؤولين الجدد بما يخص الفساد، وتم الاستيلاء على السيارات الفخمة التي يركبونها لصالح الدولة... وجرى نفي الحكاية نفسها بأشكال شبه رسمية، وعلى الأقل لم يتم تأكيدها بشكل علني.
مغزى الحكاية وتوقيتها؟
مجرد الحديث عن حملة لـ«محاربة الفساد»، وإن عبر حكايات من نمط الحكاية المشار إليها، هو قبل كل شيء إشارة إلى أن هنالك فساداً بالفعل، وأن مستوى هذا الفساد قد بات مرئياً ومحسوساً، وبالتالي فإن من الضرورة بالمكان، على الأقل، الحديث عن ضرورة محاربته... ولكن السياق العام لما يجري في البلاد على الصعد المختلفة، أوسع وأعقد بكثير من مجرد الحديث عن فساد وعن محاربة فساد...
يمكن تلخيص اللوحة الاقتصادية في سورية خلال الأشهر الماضية، بالنقاط التالية:
أولاً: رغم الاحتفالات المتكررة برفع العقوبات الأمريكية، إلا أن الوقائع الملموسة تقول إن العقوبات لم يتم رفعها حتى اللحظة، وأن رفعها بشكل كامل ليس مرتبطاً بأي موعد معروف في المستقبل، ولكن مرتبط بشروط سياسية تجري محاولة فرضها على سورية والسوريين، وعلى رأسها شروط تخدم الحليف الوحيد للولايات المتحدة في المنطقة، أي «إسرائيل»، وعلى حساب سورية والسوريين والسيادة السورية، بل وحتى على حساب وحدة سورية نفسها إن استطاعوا إلى ذلك سبيلاً...
ثانياً: السياسات التي تتبعها السلطة المؤقتة في المجال الاقتصادي، هي في الجوهر استكمال وتسريع للسياسات الليبرالية السابقة؛ من استكمال عمليات رفع الدعم في الخبز والمواصلات ورفع الدعم عن الزراعة والصناعة، ووصولاً مؤخراً إلى ملف شديد الحساسية والخطورة هو ملف الكهرباء... بالتوازي مع عمليات خصخصة شبه معلنة في القطاعات السيادية بمجملها.
ثالثاً: ضمن السياسات نفسها، جرى فتح الحدود للبضائع الأجنبية دون حسيب أو رقيب، ما أسهم ويسهم بإغلاق ما كان قد تبقى من ورشات ومعامل، بسبب انعدام إمكانية المنافسة، خاصة مع الارتفاع الإضافي في تكاليف الإنتاج الناجم عن عمليات رفع الدعم... يضاف إلى ذلك تدهور القدرة الشرائية للأغلبية الساحقة من السوريين، ما يعني شل الدورة الاقتصادية ومنع تجديدها، لأن القاعدة الأولى في تدوير عجلة الاقتصاد هي استكمال الدورة من الإنتاج إلى التبادل والتوزيع ووصولاً إلى الاستهلاك، فإن لم يكن هنالك استهلاك فإن الدورة تتوقف بالضرورة ولا يمكن بالتالي إعادة تجديد الإنتاج لا بشكل بسيط ولا بشكل موسع.
رابعاً: عمليات الفصل الواسعة النطاق لموظفين في المؤسسات العامة، والتي لم يجر التراجع إلا عن جزء يسير منها، تعزز شلل العجلة الاقتصادية، عبر تعزيز الشلل في الاستهلاك لدى مئات الآلاف من السوريين، بل ولدى الملايين إن أضفنا لهؤلاء البطالة الجديدة الناتجة عن إغلاق عدد كبير من الورش والمعامل في طول البلاد وعرضها.
خامساً: كل الكلام عن الاستثمارات المليارية الكبرى القادمة إلى سورية، ما يزال كلاماً وحسب، بل ومن غير المتوقع أن يتحول إلى أي شيء ملموس بغياب استقرار أمني وسياسي حقيقي، ناهيك عن غياب بنية تشريعية وقانونية واضحة وشفافة يحتكم إليها الناس ويضمنون حقوقهم.
سادساً: استمرار حالة تقسيم الأمر الواقع على حالها من حيث الجوهر، يعني استمرار غياب السوق الوطنية الواحدة. وغياب سوق وطنية واحدة يعني غياب أي إمكانية فعلية للنهوض بالاقتصاد وبالبلاد... وما ينبغي أن يكون واضحاً ومفهوماً هو أن حالة تقسيم الأمر الواقع بالمعنى الاقتصادي هي أكثر تعقيداً من التقسيمات السياسية التي تظهر على السطح؛ فقد يقول قائل إن في سورية منطقة الشمال الشرقي من جهة ومنطقة في الجنوب، وبقية البلاد، كل منها منطقة منفصلة جزئياً عن المناطق الأخرى، وتعيش حالة خاصة بها بالمعنى الاقتصادي والسياسي. وهذا صحيح إلى حد ما، ولكنه لا يعبر عن الصورة كاملة؛ فمناطق تقسيم الأمر الواقع اقتصادياً هي أكثر من 3 مناطق بكثير؛ فعملية الاندماج السياسي والعسكري والانتقال من الحالة الفصائلية نحو الدولة، لم تتم بعد، بل وما تزال في خطواتها الأولى، ما يعني أن هنالك فصائل متعددة في سورية ما تزال تسيطر على اقتصاد مناطقها، رغم وجودها الرسمي ضمن مرتبات وزارة الدفاع... الأمر الذي يعزز غياب الشفافية، ويجعل عقلية الغنيمة متغلبة على عقلية الدولة في مناطق متعددة من البلاد...
سابعاً: في ظل هذه الظروف كلها، وبنتيجتها وبنتيجة التراكمات والأزمات السابقة التي خلفها نظام الأسد، تعيش الغالبية الساحقة من السوريين أوضاعاً شديدة الصعوبة بالمعنى الاقتصادي الاجتماعي، وهذه الأوضاع مستمرة بالتدهور، ولا تشهد أي تحسن حقيقي. هذه الأغلبية الاقتصادية، المنتمية إلى كل الأديان والقوميات والطوائف، ترى بأم عينها أثرياءً جدداً، يعيشون الحياة طولاً وعرضاً، ويركبون أحدث السيارات المستوردة، ويسرفون ويبطرون ويبذخون، بينما الأغلبية تعيش الضنك والفاقة وحتى الجوع.
«محاربة الفساد»؟
ضمن وضع له الصفات التي ذكرناها، يصبح من المفهوم والمتوقع أن تظهر أصوات تقول بضرورة محاربة الفساد؛ لأن الناس تعرف، ودون فذلكات اقتصادية وسياسية، أنه «ما اغتنى غني إلا بفقر فقير».
المشكلة هي حين يكون خطاب محاربة الفساد، تكراراً في الجوهر لخطابات بشار الأسد ونظامه حول محاربة الفساد؛ حيث السوبر مان المسمى بشار الأسد كان طوال الوقت شخصاً جيداً وقلبه على الشعب، ولكن المشكلة كانت دائماً في من هم حوله... وأنه شخصياً يسعى لمحاربة الفساد، وأنه سيصل إلى غايته في يوم من الأيام.
بعيداً عن المقارنات، ومع افتراض حسن النوايا لا سوئها، فإن القاعدة التي لا يمكن لأحد القفز فوقها هي ما يلي: لا يمكن محاربة الفساد في الظلام، وفي الغرف المغلقة وعبر أفضال سوبر مان ما... الفساد يزدهر في الظلام والغرف المغلقة. محاربة الفساد بشكل حقيقي لا يمكن أن تتم إلا حين نفتح الشبابيك والأبواب لأشعة الشمس الكاشفة المطهرة، أي للشفافية ولرقابة الشعب المباشرة على موارده وثرواته. وهذه الرقابة تعني المشاركة السياسية الحقيقية المباشرة للناس في صنع قرارهم، والمدخل كما قلنا مراراً وتكراراً هو المؤتمر الوطني العام... بغير ذلك، فإن الفساد سيزداد ويتعمق ويقضي على ما تبقى من البلاد والعباد؛ فما سقط حتى اللحظة هو السلطة، أما النظام بوصفه طريقة لتوزيع الثروة وإدارة البلاد فما يزال قائماً، ولن يسقطه إلا تكاتف الشعب السوري وتوحده وعمله ونضاله المشترك من أجل مصالحه...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1250