المشاركة السياسية في سورية اليوم... ضرورة وجودية وليست ترفاً!
* السلوك العملي للسلطة الجديدة يظهر ميلها نحو الاستئثار وإغلاق باب المشاركة
* الاستئثار لا يشمل القطاع السياسي فقط، بل ويمتد للاقتصادي والإداري
* الحوار الوطني يتحول إلى فرصة ضائعة لأنه كان شكلياً وغير ملزم
* الناس تجتمع لمواجهة مشاكلها، وحين تُحجب السياسة، تجتمع الناس على أسس ما قبل وطنية (قومية، دينية، طائفية)
* التجمع على أسس ما قبل وطنية، يعني تفجير السلم الأهلي ووحدة البلاد، ويعني الدمار الاقتصادي والأمني والسياسي
* المشاركة المطلوبة سياسية وليست تجميعاً طائفياً أو قومياً أو عشائرياً
أثبتت الأشهر العشرة الماضية، وبالممارسات الملموسة، أن السلطة الجديدة تميل إلى تحجيم أي مشاركة اجتماعية كانت أم سياسية في حل المشكلات القائمة وفي التصدي للمسؤوليات الكبرى المختلفة التي تواجه البلاد وأهلها.
بين المؤشرات الواضحة على الميل نحو الاستئثار وعدم المشاركة، يبرز ما يلي:
أولاً: صياغة الإعلان الدستوري دون تشاور مع السوريين، وبما يصب في تغييب فصل السلطات لمصلحة تركيزها بيد السلطة التنفيذية، ناهيك عن غياب أي ذكر للديمقراطية (أي سلطة الشعب بالشعب ومن أجل الشعب)، وإطالة الفترة الانتقالية إلى 5 سنوات كاملة تكون فيها إدارة البلاد هي بالشكل نفسه الذي اختارته السلطة الجديدة، أي دون مشاركة السوريين الآخرين.
ثانياً: اختزال مهمة الحوار الوطني العام، إلى مؤتمر شكلي إلى حد بعيد، وبساعات عمل محدودة، وبتوصيات غير ملزمة، وإيقاف الأمر عند هذا الحد، رغم أن التوصيات نفسها تقول بضرورة استكمال الحوار وتوسيعه.
ثالثاً: تعيينات «مجلس الشعب» التي اقتصرت على مشاركة ما لا يزيد عن 7000 سوري من أصل أكثر من 25 مليوناً، وهؤلاء الآلاف السبعة تم اختيارهم من السلطة نفسها عبر لجنة الانتخابات المعينة وعبر المحافظين المعينين؛ ما يعني أن فرصة حقيقية لتوسيع مشاركة الناس في إدارة أمورهم، قد جرى التخلي عنها لمصلحة التحكم والاستئثار.
رابعاً: تحت ذريعة «فلول» تارة، وتحت ذريعة تخفيض النفقات تارة أخرى، جرى ويجري فصل وإبعاد وتحييد عشرات الألوف من موظفي جهاز الدولة في مختلف القطاعات، ويحل محلهم، وبشكل جزئي، موظفون جدد على أساس الولاء لا الكفاءة؛ وهو أمر لا ينتقص من حقوق الناس فحسب، بل ويوقع البلاد في فوضى إدارية وتنظيمية كبيرة، يرى الناس آثارها في مختلف القطاعات.
خامساً: عمليات الاستئثار ومنع المشاركة، تمتد من القطاع السياسي والإداري إلى القطاع الاقتصادي أيضاً؛ حيث يجري وضع اليد على عمليات الاستيراد والتصدير بأشكال مباشرة وغير مباشرة، ما يؤدي بعدد كبير من المنتجين الصغار والمتوسطين إلى الإفلاس وإغلاق معاملهم وورشاتهم، ناهيك عن الضرر الذي يلحق بالتجار بمختلف أنواعهم... ويترافق ذلك مع سياسات مالية تقطع الطريق على أي عمليات استثمار إنتاجية، مع ارتفاع التكاليف الهائل، وانعدام القدرة الشرائية لدى الغالبية الساحقة من السوريين.
سادساً: يجري التعامل مع «مناطق تقسيم الأمر الواقع»، أي المناطق التي لا توجد فيها سيطرة مباشرة للسلطة الجديدة، بمنطق هو تركيب من السياسي الجزئي والأمني، ومن خلال التفاوض مع الدول الخارجية بالدرجة الأولى، وليس من خلال السعي للوصول إلى مشاركة فعلية في تحديد شكل الدولة الجديد وطريقة إدارتها... وهذا الأمر عدا عن أنه يحرم البلاد من موارد بشرية وطبيعية، فإنه يعقد الوضع السياسي والأمني والاقتصادي للبلاد، ويزيد من دور ووزن وتأثير عمليات التخريب الخارجي، خاصة «الإسرائيلية».
اجتماع سياسي وليس «مكوناتي»!
الناس حين تواجه أزمات وأوضاعاً صعبة، كالتي نواجهها اليوم، تلجأ إلى تجميع قواها؛ فإما أن يتم التجميع على أسس وطنية جامعة، أي على أسس سياسية تتطلب بالضرورة عملاً سياسياً وطنياً وحريات سياسية ومشاركة سياسية ونشاط سياسي، أو تجتمع على أسس طائفية وقومية ودينية وعشائرية حين يغلق أمامها باب السياسة. الطريقة هذه في تجميع الناس، أي على أسس تحت وطنية، هي وصفة مثالية لتدمير وحدة البلاد وسلمها الأهلي، ولتدمير ما تبقى من اقتصادها، ولتوسيع مجال التدخلات الخارجية... ولنا في تجربة عبد الناصر عبرة لا يجوز القفز فوقها... فعبد الناصر أخطأ خطأ فادحاً حين منع الحياة السياسية وألغى الأحزاب، وفي سنواته الأخيرة أدرك خطأه وحاول تصحيحه، ولكن الثمن كان قد دفع بالفعل، في كل من مصر وسورية... وربما ما تزال سورية تدفع الثمن حتى يومنا هذا.
وعليه، فإن تمويه عملية المشاركة السياسة، عبر جعلها مستندة إلى تمثيلات طائفية وقومية ودينية وعشائرية، هو عملية قاتلة وضارة، سواء كانت تجري بشكل «تجميلي» كما هو الأمر حتى اللحظة، أو بشكل فعلي أي عبر تكريس حالة من التحاصص الطائفي القومي الديني في البلاد...
المطلوب بالمقابل هو مشاركة سياسية حقيقية، على أساس قوى سياسية عابرة للأديان والطوائف والقوميات، ولها برامج وطنية شاملة قادرة على توحيد السوريين وجمعهم بغض النظر عن أي انتماء فرعي...
ضرورة وليست ترفاً
التجربة السورية، بما فيها تجربة بشار الأسد وأبيه، تعلمنا أن المشكلة والأزمة كلما كانت أكبر، فإن الحاجة إلى المشاركة السياسية والاجتماعية لحلها تكون أكبر؛ فما أوصل البلاد إلى الدمار الذي هي فيه، هو بالضبط عمليات الاستئثار ومحاولات التحكم بالسلطة والثروة بعيداً عن المجتمع، وبالضد من مصلحة المجتمع وغالبيته المفقرة التي تتجاوز 90% من السوريين، وتنتمي لكل القوميات والأديان والطوائف والمذاهب.
ما يوجد على المحك اليوم، ليس مستقبل هذه السلطة أو تلك، وليس حصة هذه المجموعة أو تلك من البلاد وسلطتها وثرواتها، بل مصير البلاد نفسها، ووجودها، ووحدتها السياسية والجغرافية، وسلمها الأهلي. وهذه أمور لا يمكن التعاطي معها دون أوسع تفاهم وتوافق بين السوريين، بحيث يشعر كل سوري بأنه مواطن مكتمل المواطنة بغض النظر عن دينه أو طائفته أو قوميته أو أي انتماء جزئي آخر.
المشاركة تعني تفعيل طاقات السوريين المختلفة بعيداً عن مبدأ الولاء، وعلى أساس الكفاءة أولاً وقبل كل شيء، وتعني فتح الباب واسعاً أمام مساهمة السوريين في توحيد بلادهم بوصفهم أسياداً أحراراً فيها، لا تابعين ولا رعايا.
الطريق للقيام بذلك واضح: المؤتمر الوطني العام الذي ينبغي أن يكون بمثابة جمعية تأسيسية، وتنفيذ جوهر خارطة الطريق الموجودة في القرار 2254؛ أي مشاركة حقيقية وليس على أسس طائفية ومكوناتية، ودستور دائم وصولاً لانتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة يقرر فيها الشعب السوري مصيره بنفسه، ويوحد بلاده بشكل فعلي ويفتح الطريق لإعادة إعمارها حقاً وفعلاً...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1249