أربع مقالات ضمن ملف المركزية واللامركزية

أربع مقالات ضمن ملف المركزية واللامركزية

ضمن النقاش العام المفتوح مجدداً حول مواضيع المركزية واللامركزية، والنموذج المطلوب لسورية المستقبل، نعيد فيما يلي نشر أربع مقالات من «قاسيون»، كُتبت خلال السنوات الخمس الماضية، للإسهام في النقاش العام...

(1) المركزية واللامركزية: نظام واحد

تستخدم بعض الأطراف السورية تعبير اللامركزية كصفة «مكتملة» لشكل الدولة السورية الجديد الذي تنشده. بالمقابل، تستخدم أطراف أخرى تعبير المركزية، وتشفع كلامها بـ«إمكانية السماح بشيء من اللامركزية الإدارية».

ثلاث مشكلات وحقيقة ثابتة...

استخدام الأطراف المختلفة لتعبيرات المركزية واللامركزية- والتوصيفات من قبيل الإدارية والمالية والسياسية وإلخ، كصفات للمركزية، أو اللامركزية- تكتنفه ثلاث مشكلات كبيرة.

المشكلة الأولى: ليس هنالك تعريف نظري متوافق عليه لأي من هذه التوصيفات على الإطلاق؛ نعم هنالك تقاطعات بين التعريفات المختلفة، ولكن حدود هذه التقاطعات هي في كثير من الأحيان أقل بدرجات من حجم الاختلافات. وتالياً، فإنّ استخدام أي طرف لهذه المصطلحات بوصفها «مصطلحات واضحة» ولا تحتاج إلى تعريف وتوضيح، لا بل والتعامل مع «المركزية» و«اللامركزية» كنقيضين، أحدهما «خير» والآخر «شر»، هو بالضرورة استخدام تضليلي، المقصود منه دفع الناس لتبني هذا الطرح أو ذاك، دون أن يكونوا على بيّنةٍ من حقيقة ما يريده صاحب الطرح.

المشكلة الثانية: هي أنّ الاختلافات لا تقف عند حدود الكلام النظري؛ فمجرد النظر إلى التطبيقات المختلفة للعلاقة بين المركزية واللامركزية حول العالم، تسمح لنا بالقول: إنّ التمظهر الملموس لهذه التعريفات النظرية هو تمظهر فريد في كل مرة جديدة، ويكاد لا يشبه التمظهرات الأخرى إلّا ضمن حدودٍ ضيقة.

المشكلة الثالثة: هي التوظيف السياسي الآني للاختلاف في تصورات الأطراف حول ما ينبغي أن تكون عليه سورية المستقبل، بما يخص العلاقة بين المركزية واللامركزية؛ حيث يتحول التشبث بهذا الطرف من التناقض أو ذاك، إلى جزءٍ من العدة الإعلامية والدعائية للصراع السياسي الآني، حيث المطلوب من وجهة نظر البعض هو إبراز الاختلافات، وتركيز الضوء عليها، وكأن المسألة هي لعبة شد حبال بين نقطتين متطرفتين، أملاً في الوصول (أو عدم الوصول) إلى نقطة وسط... والحقّ، أنّ شدّ الحبال بهذه الطريقة، والذي يصل حدود التخوين، يمكنه ببساطة أن يقطع تلك الحبال، ويرفع من مخاطر التقسيم، لا أن يصل بالمتصارعين إلى حلول...

حقيقة ثابتة: ما دام الكل يرفع شعار وحدة سورية أرضاً وشعباً، فإنّه يقر ضمناً بأنّ لهذه الدولة الواحدة في نهاية المطاف مركزاً أساسياً واحداً، اسماً واحداً وعلماً واحداً ونشيداً واحداً وعملة واحدة وإلخ (رغم أنّ الوضع الحالي هو وضع ليس فيه اتفاق عام وشامل على عدد من هذه المفردات، إلا أنّ نهاية المطاف هي الاتفاق عليها كلها... أو التقسيم).

بكلام آخر، فإنّه ليس هنالك شيء اسمه لامركزية «حاف»؛ فأيّاً تكن درجة اللامركزية المطلوبة، فإنّها مرتبطة حكماً بوجود مركز، ويكون السؤال في حينها هو حول توزيع الصلاحيات بين المركز والأطراف، أي: عن التناسب المطلوب بين المركزية واللامركزية.

على المقلب الآخر، فليس هنالك أيضاً مركزية «حاف»، فحتى أشد النظم السياسية تمركزاً، (حتى تلك النظم الملكية والإمبراطورية والأوتوقراطية، التي عفا عليها الزمن)، يوجد ضمنها قدر ولو ضئيل من اللامركزية في إدارة شؤون محددة، وخاصة الشؤون الاقتصادية؛ حيث تعكس تلك العلاقة بين المركزية واللامركزية- إلى هذا الحد أو ذاك- مستوى تطور علاقات وقوى الإنتاج في كل عصر من العصور.

والثابت أيضاً، هو أنّ التطور التاريخي يسير باتجاه تركيب علاقة جديدة بين المركزية واللامركزية، علاقة تكون فيها المركزية أقوى وأكثر ثباتاً واستقراراً، كلما كانت قائمة على ديمقراطية أوسع وأشمل، وضمناً على لامركزية أوسع...

خلاصة

لا نسعى هنا إلى تقديم رأي في طبيعة التناسب المطلوب بين المركزية واللامركزية في سورية المستقبل، وهو أمر قدمت «قاسيون» عدة مقالات لنقاشه، ولكن نسعى إلى تثبيت فكرة أساسية واحدة: المركزية واللامركزية هما جزءان مكونان لنظام واحد، ينبغي أن يصل السوريون إليه، وإلى التناسبات ضمنه عبر نقاش واسع وديمقراطي. أما رفع سيف المركزية أو سيف اللامركزية، والقتال باستخدامهما، من أي طرف كان، فهو تضليل للسوريين، بغض النظر عن النوايا...


1241_h_15

(2) المركزية واللامركزية... أفكارٌ أولية

ألقت مذكرة التفاهم الموقعة بين حزب الإرادة الشعبية ومجلس سورية الديمقراطية يوم الاثنين الماضي في موسكو (آب 2020)، ضوءاً كثيفاً على مسائل المركزية واللامركزية في سورية المستقبل. خاصة وأنّ متطرفين ومتشددين من الأطراف السورية وغير السورية، من الذين لا مصلحة لهم بالوصول إلى حل للأزمة، قد سارعوا إلى التدليس على المذكرة والكذب بالقول: إنها تدعو إلى الفيدرالية بل وإلى التقسيم، في محاولة منهم للنيل منها، ولتقليص آثارها التي أحسنوا في توقع ضخامة حجمها...

لا نسعى في هذه المادة إلى تقديم رؤية تفصيلية لخريطة المركزية واللامركزية في سورية المستقبل، ليس لأن المساحة لا تكفي فحسب، بل ولسببين أساسيين أكثر أهمية، الأول: هو أنّ أي تصور يقدمه أي طرف سوري حول المسألة هو مجرد اقتراح لا يتحول إلى واقع إلا عبر الحوار والتوافق مع الأطراف السورية الأخرى، وعبر العملية الشاملة للحل السياسي.

الثاني: هو أننا لا نملك تلك الخريطة التفصيلية، ونزعم أنه ليس من طرف سوري يملكها وحده، فهي شديدة التعقيد وغنية بكم هائل من التفاصيل لا يمكن حصره إلا عبر الحوار أيضاً، وبإشراك المختصين وأبناء المناطق السورية المختلفة.

بُعدٌ واحد

وعليه، فإنّ ما نحاول تقديمه هنا، هو مجرد تصور عامٍ وأولي حول المسألة. ومع ذلك، نزعم أنه ضروري كنقطة بدء.

تشير النقاشات المختلفة حول المسألة إلى تصور تبدوان معه المركزية واللامركزية نقيضان يزداد أحدهما بنقص الآخر والعكس بالعكس؛ أي كلما زادت المركزية قلت اللامركزية، وكلما قلت المركزية زادت اللامركزية. هذا التصور هو ما نسميه رؤية أحادية البُعد للمسألة، ونعتبره خاطئاً.

فلننظر إلى المثال السوري ما قبل الأزمة. من الصحيح أنّ المركزية في سورية قبل الأزمة كانت مركزية شديدة بالمعنى القانوني، الإداري والسياسي والأمني والمالي والاقتصادي. المركز يهيمن على كل شيء، ابتداءً من الخطط العامة للدولة ووصولاً إلى تعيين أصغر موظف في أبعد مؤسسة في أبعد نقطة من البلاد. وإذا قسنا الأمور وفقاً للنظر ببُعد واحد، لقلنا: إنّ اللامركزية في سورية كانت معدومة ما قبل الأزمة. ولكن إذا دققنا النظر أكثر، وأقصد بالضبط أننا إذا نظرنا ما الذي حل بسورية ابتداء من 2011، لوجدنا أنّ «المركزية الشديدة والمهيمنة» ورغم أنها كانت حقيقية، إلا أنها لم تصهر البلاد في كيان واحد مترابط، بل على العكس من ذلك، فإنها قوّت لا مركزيات عديدة غير ظاهرة، قائمة على أسس متعددة بينها أسس اقتصادية من حيث الجذر، وأسس انتماء ما تحت وطني من حيث الظاهر.

بكلام آخر، فإنّ «المركزية الشديدة» ترافقت مع «لا مركزية شديدة»؛ ببساطة لأن المركزية الشديدة التي تقوم على التوزيع غير العادل للموارد وللتنمية، وعلى التهميش والإقصاء، لن تُنتج انصهاراً للمناطق والناس ضمن وحدة البلاد، بل ستنتج انصهاراً شكلياً مؤقتاً بقوة القمع، سرعان ما ينهار عند أول سانحة.

بُعدان

بهذا المعنى، فإنّ البحث عن مركزية فعالة تحفظ وحدة البلاد وتقوّيها، تحتاج إلى ممارسة واسعة للديمقراطية في كل أرجاء البلاد، وتحتاج ضمناً إلى لا مركزية فعّالة في المناطق، يمارس الناس من خلالها سلطتهم الرقابية على أجهزة الدولة بشكل مباشر... وهذه تحتاج إلى أشكالها التمثيلية والانتخابية على المستوى المحلي والمستوى المركزي.

ثلاثة أبعاد

كل ذلك لن يكون له معنى، دون البُعد الاقتصادي التنموي للمسألة؛ فانتماء كل سوري إلى بلده، في أي بقعة سكنها ضمن البلاد، تعني ضمناً أن يحصل على فرصة تكافئ أي سوري آخر بالمعنى المعيشي والتعليمي والصحي...

هذا لا يتم إلّا عبر تنمية متوازنة لكل البلاد... ولأنّ البلاد بأسرها شبه مدمرة، ربما نقف الآن أمام فرصة تاريخية لإعادة بنائها بشكل متوازن.


1241_h_17

(3) سلطة الشعب... في المركز والمناطق على حدٍّ سواء

لكي تعرف من يملك السلطة الفعلية في بلدٍ ما، يكفي أن تنظر إلى طريقة توزيع الثروة/ الدخل الوطني؛ أولئك الذين يأخذون الحصة الأكبر، هم من يملكون السلطة الفعلية، وذلك أياً تكن الأشكال القانونية والسياسية التي تظهر على السطح. هذه الأشكال لا تمثل في نهاية المطاف سوى تعبيرٍ فوقيٍ عن نمط وأسلوب توزيع الثروة.

في سورية ما قبل 2011، وبالتحديد مع انتهاء الخطة الخمسية العاشرة بنتائجها الكارثية، كان توزيع الدخل الوطني يجري بالشكل التالي: (20% من السوريين «هم أصحاب الأرباح» يحوزون 75% من الثروة. 80% «هم أصحاب الأجور» يحوزون 25% من الثروة) ... وبكلام آخر، فإنّ أولئك الذين ينتجون 100% من الثروة، يحصلون على ربع ما ينتجونه، في حين أنّ من لا ينتجون شيئاً، يحصلون على ثلاثة أرباع الثروة.

يكشف هذا التوزيع المتوحش في عدم عدالته، (والذي بات أكثر قسوة وإجراماً الآن)، أنّ السلطة الفعلية في سورية كانت بيد أصحاب الأرباح، ولا تزال.

مستوى الحريات السياسية المنخفض تاريخياً في سورية، هو ضرورة وجودية لأصحاب الأرباح؛ لأنّ عامة الناس (أصحاب الأجور) يجب أن يبقوا صامتين وأن يُمنعوا من الاحتجاج على الجور الواقع عليهم. وكلما زاد الجور في توزيع الثروة فإنّ مستوى الحريات لا بد له أن ينخفض أكثر، أي أنّ مستوى القمع والتحكم والهيمنة ينبغي أن يرتفع...

ولكن، إذا كان انخفاض مستوى الحريات السياسية، وضمناً ارتفاع مستوى القمع، هو أداة أساسية لحماية توزيع الثروة الجائر، فإنّ المركزية الشديدة هي إحدى «الأدوات الفنية» الأساسية لتنفيذ ذلك التوزيع...

هل المسألة جغرافية بحتة؟

تثبيت الأساس الاقتصادي- الاجتماعي هو أمرٌ لا بد منه لنقاش علمي لمسائل المركزية واللامركزية. فهاتان المسألتان، هما في النهاية أداتان من أدوات إدارة إنتاج وتوزيع الثروة، وبالتالي هما أداتان من أدوات السلطة.

إذا عدنا مرة أخرى إلى سورية ما قبل 2011، فإنّ المتفق عليه هو أنّ شكل إدارة الدولة والاقتصاد كان شكلاً شديد المركزية. لكن هذا التعبير يبدو مضللاً إلى حدٍ بعيد إذا حاول المرء فهمه من وجهة نظرٍ جغرافية بحتة؛ كأن نقول: إنّ السلطة كانت متركزة في المدينتين الكبيرتين (دمشق وحلب) على حساب بقية المناطق السورية.

إنّ قولاً من هذا النوع قد يوحي خطأً بأنّ السلطة متركزة لدى السوريين الموجودين في دمشق وحلب على حساب بقية السوريين الموجودين في المحافظات الأخرى. وتالياً، قد يوحي هذا الفهم أنّ اللامركزية تعني اقتسام السلطة جغرافياً بين المحافظات!

الأساس الاقتصادي- الاجتماعي الذي بدأنا حديثنا به (أي طريقة توزيع الثروة)، يقول لنا: إنّ السلطة متركزة بيد أصحاب الأرباح، سواء كان هؤلاء موجودين في دمشق أو حلب أو في أي محافظة سورية أخرى، أو حتى خارج البلاد كلها.

أكثر من ذلك، وإذا أخذنا بعين الاعتبار الكثافة السكانية الكبيرة في كل من دمشق وحلب، وأحزمة البؤس التي تطوقهما، لأمكننا القول: إنّ النسبة الأعلى للسوريين المحرومين من السلطة، إنما تتركز بالذات في دمشق وحلب!

أين تنتج الثروة؟

عملية إنتاج الثروة في سورية، هي عملية تتم في جميع أنحاء البلاد، رغم أنّ إسهام المحافظات يتفاوت وفقاً لعدة عوامل، بينها فيما نعتقد ثلاثة عوامل أساسية:

العامل الأول: هو طبيعة الموارد الموجودة في كل محافظة (خاصة حين الحديث عن الثروات الباطنية، نفط غاز فوسفات معادن إلخ، وحين الحديث عن المساحات الزراعية ومدى خصوبتها).

العامل الثاني: هو طريقة إدارة الدولة للموازنة الاستثمارية، ولعملية التنمية ككل.

العامل الثالث: هو توزّع استثمارات القطاع الخاص، والتي تتمركز غالباً في المدينتين الكبيرتين لأسباب عديدة، أحدها مشتق من الموازنة الاستثمارية نفسها، وأيضاً من طبيعة الأنشطة الاقتصادية التي يمارسها القطاع الخاص، والتي تتمحور في قسم مهم منها حول النشاطات العقارية والخدمية، وكل أنواع النشاطات غير المنتجة على العموم، وبالتأكيد بسبب الكثافة السكانية العالية...

رغم أنّه لا تتوفر لدينا إحصاءات توضح نسبة إسهام كل محافظة من المحافظات السورية في الدخل الوطني، إلا أنّ تركيب الدخل الوطني حسب القطاعات، يسمح بتأكيد ما بدأنا به هذه الفقرة بقولنا: إنّ عملية إنتاج الثروة تتم في جميع أنحاء البلاد. فلننظر مثلاً إلى البيانات الإحصائية للمكتب المركزي للإحصاء لتركيب الدخل الوطني عام 2010 حسب القطاعات.

إدارة النهب

الإشراف المركزي المباشر على مختلف أنواع الأنشطة الاقتصادية في كل أنحاء البلاد، بما في ذلك التنمية غير المتناسبة، ورغم أنه نشأ عفوياً وكحاجة موضوعية بعد الاستقلال، إلا أنّه تحول مع الوقت إلى شبكة معقدة من الأقنية التي تمر جميعها عبر مركز واحد. مرورها عبر مركز واحد يسمح بتحقيق أمرين:

الأول: هو تعظيم الأرباح، وتعظيم النهب الذي يمارسه الفساد الكبير، والذي كان ينهب سنوياً بين 20-40% من إجمالي الثروة، وليس ممكناً أن يفعل ذلك دون أن تمر مختلف أقنية الثروة تحت يديه.

الثاني: التحكم بطريقة توزيع الثروة المتبقية بعد النهب، بين الأجور والأرباح، وبين المحافظات، وبين القطاعات، بوصفها أداة مستدامة في إعادة إنتاج النهب.

لإلقاء بعض الضوء على ما سبق، ربما يكفي أن نذكر مثالاً واحداً عن آثار التفاوت في التنمية، وخاصة مع السياسات الليبرالية:

من المعروف أنّ مشكلة هجرة الريف إلى المدينة هي مشكلة مزمنة في سورية، وقد تفاقمت بشكل هائل خلال الخطة الخمسية العاشرة، وبشكل خاص بعد رفع سعر المازوت من 7 ليرات للتر الواحد إلى 25 ليرة، وهو الأمر الذي أضر بشكل هائل بالزراعة وبالثروة الحيوانية، دافعاً مئات الألوف من السوريين إلى الانتقال نحو أحزمة البؤس في دمشق وحلب بحثاً عن أي عمل.

كيف يمكن أن يربح (أصحاب الأرباح) من الكثافة السكانية العالية في دمشق وحلب؟ في الحقيقة، يمكنهم الربح من ذلك بعدد هائل من الوسائل والطرق، بينها على سبيل المثال لا الحصر: مضاعفة أرباح تجارة الجملة للمنتجات الزراعية؛ فعدد سكان المدينتين وأحزمة البؤس حولهما تجاوز 12 مليون نسمة عام 2010، أي قرابة نصف عدد سكان البلاد. وهؤلاء يحتاجون يومياً إلى استهلاك منتجات زراعية، ولكن بما أنّ المنتجين موجودون في الأرياف البعيدة، فإنّ وصول المنتجات إلى سكان المدن يحتاج إلى نقل يزيد سعره، وكذلك إلى وسطاء من الحيتان الذين يلتهمون المنتج والمستهلك معاً، حيث يضطر المنتج إلى بيع إنتاجه بأسعار رخيصة، لأنه غير قادر على تصريف كامل إنتاجه في مكان الإنتاج (فعدد السكان هناك قليل نسبياً). وأما المستهلك فمضطر لشراء تلك المنتجات بأسعار احتكارية يفرضها الوسطاء الحيتان...

مثال آخر: هو أنّ تركيز السكان في المدينتين يخلق «فيضَ سكانٍ نسبي»، بكلام آخر فهو يؤدي إلى ارتفاع عرض قوة العمل، وبالتالي يخفض سعرها... ببساطة: عدد كبير من المتنافسين على فرص العمل ضمن مساحة ضيقة، يسمح لرأس المال أنْ يقدم أجوراً أخفض، ومع ذلك سيتزاحم طالبو العمل على تلك الأجور المنخفضة في ظل غياب البدائل.

مركز وأطراف

ضمن الفهم الذي نحاول تقديمه هنا، فإنّ دمشق وحلب هما أطراف أيضاً شأن المحافظات الأخرى، أما المركز فهو حيث توجد السلطة الفعلية.

وبهذا المعنى، فإنّ الصيغة المتطورة للعلاقة بين المركزية واللامركزية التي نتحدث عنها كأداة لسلطة الشعب، تعني في الجوهر ما يلي:

تحقيق سلطة الشعب في المركز بشكل ديمقراطي ونزيه، بحيث يتمكن أصحاب الأجور (أي الغالبية العظمى من السوريين)، من إمساك السلطة في المركز، عبر ممثليهم، وتالياً التحكم بعملية توزيع الثروة وتوزيع النشاط الاستثماري بما يخدم مصلحة الشعب ككل.

تحقيق سلطة الشعب في المناطق، وأيضاً عبر ممثليهم المنتخبين، ومع صلاحيات حقيقة لا في الرقابة على أجهزة الدولة ومحاسبتها فحسب، بل وبإدارة الموارد والاستثمارات على المستوى المحلي، وبما ينسجم مع الخطط العامة في البلاد من جهة، وبما يلبي المصالح المحلية للسكان من جهة أخرى.

تكسير أقنية الفساد

وصول الممثلين المنتخبين لأصحاب الأجور إلى السلطة في المركز، لا يمكنه أن يؤمن ضمانة نهائية لإنهاء الفساد، كما أثبتت تجارب تاريخية عديدة. فمحاربة الفساد تتطلب تفعيل سلطة الشعب في كل أنحاء البلاد، ابتداء من دمشق ووصولاً إلى كل المحافظات والمناطق السورية. بكلام آخر، يجب أن تجري مختلف العمليات الاقتصادية تحت نظر الشعب بشكل مباشر، وإلا فإنّ الفساد قادر دائماً على اللعب في الغرف المغلقة.

بهذا المعنى، فإنّ العلاقة بين المركزية واللامركزية، هي علاقة أداتين ضمن نظام واحد متكامل، وتعني بالملموس، تحقيق سلطة الشعب على المستوى الفوقي في أجهزة الدولة الشاملة للبلاد ككل، وبالمعنى المباشر على الأرض في كل نقطة من الأرض السورية.


1241_h_18

(4) بين مركزية القهر ومركزية التراضي ولامركزية الفوضى ولامركزية سلطة الشعب

رغم أنّ نقاش مقولتي المركزية واللامركزية في سورية الجديدة، قد تراجع إلى الخلف قليلاً، ولم يعد بالسخونة ذاتها التي كان عليها قبل سنوات (وربما هذا أفضل كي تتجه النقاشات اتجاهات أكثر موضوعية وأكثر استدامة)، إلا أنّ الموضوع في جوهره ما يزال ساخناً ومهماً، بل ويمكن القول: إنّ الوقت أمام تحضيرات جدية لنقاشه والوصول إلى تفاهمات حوله قد بات قصيراً، في ظل حجم المتغيرات وسرعتها...

وقد نُشر على صفحات قاسيون عبر السنوات الماضية عدد من المقالات والأفكار حول المسألة، بالتوازي مع الموقف الرسمي لحزب الإرادة الشعبية المعبّر عنه في افتتاحيات قاسيون، وفي المؤتمرات الصحفية وغيرها. ولا نسعى هنا للإحاطة بالمسألة من كافة جوانبها، أو للتعبير عن الموقف الكامل والتفصيلي لـ «الإرادة الشعبية» منها، وإنما نسعى لوضع بضع أفكارٍ منهجية ضمن النقاش العام...

قبل كل شيء!

قبل كل شيء، لا بد من التأكيد على أنّ الرسمة الكاملة والتفصيلية لسورية الجديدة، وخاصة في الجانب المرتبط بالعلاقة بين المركزية واللامركزية، يمكنها أن ترسم بطريقة واحدة: هي الحوار الشامل بين كل الأطراف السياسية السورية، وبمشاركة واسعة من المجتمع السوري داخل البلاد وخارجها، ومن الاختصاصيين السوريين في مختلف المجالات؛ فالمسألة أعقد وأكبر من الجانب السياسي البحت أو القانوني البحت، ولا يمكن لمجموعة أو حزب أو شخص تقريرها، ليس فقط من باب أحقية الجميع بالمشاركة، بل وأيضاً لأنّ الموضوع أوسع من أن يُحاط به دون مشاركة واسعة إنْ لم نقل شاملة.

جزءٌ من كل

ينبغي أيضاً، وفي الدخول لنقاش المركزية واللامركزية، التأكيد على أنّه ليس هنالك أي معنىً لأيّ تصور نظري مركزي أو لامركزي أو مركباً دون أن يكون جزءاً من تصورٍ شاملٍ لشكل سورية الجديدة، يرتبط ضمنه هذا التصور بكل الخطوط الأساسية الأخرى.

بكلام آخر، فإنّ استكمال تصورٍ عن المركزية- اللامركزية، لا يمكن أن يستقيم دون تحديد نموذج الدولة المطلوب وطريقة حكمها:

  • هل سيكون النظام رئاسياً؟ برلمانياً؟ مختلطاً؟
  • ما هي قوانين الانتخاب في البلاد، هل هي نسبية؟ أكثرية؟ ما هو حجم الدائرة؟ كيف يتم ضبط دور الإعلام ضمن الانتخابات بحيث يضمن تكافؤ الفرص؟ كيف يتم منع أجهزة الدولة من التأثير على الانتخابات؟ كيف يتم منع المال السياسي من التأثير على الانتخابات؟ ... إلخ.
  • ما هي الهوية الاقتصادية للبلاد، وما هو هدف العملية الاقتصادية؟ وأيّ أدوارٍ سيلعبها المركز، وأيّ أدوارٍ ستلعبها الأطراف ضمن هذه العملية؟
  • ما هو قانون الأحزاب؟ ما هو قانون الإعلام؟
  • ما هي طبيعة ودرجة الحريات السياسية والنقابية والثقافية؟

المحددات السابقة ليست كل المحددات بطبيعة الحال، لكن ربما هي أكثرها أساسية. وواضح أنّ الخيار الذي سيتم التوافق عليه في أيٍّ منها، سيؤثر تأثيراً جذرياً في أي تصور حول المركزية واللامركزية. وبكلمة، فإنّ تصوراً قابلاً للحياة حول المسألة، لا يمكنه أن يُبنى إلا كجزءٍ من منظومة كاملة من التصورات حول كل المسائل الأساسية لشكل الدولة والحكم فيها.

هذا لا يعني بحالٍ من الأحوال، أنّ مسألة المركزية واللامركزية، لا يمكن إطلاقاً نقاشها بشكل منفصل، ولا تتمتع باستقلالٍ نسبي عن القضايا الأخرى؛ فهي بالتأكيد لها استقلالها النسبي، وهذا أمر بديهي، ولكن تثبيت نقطة الاستقلال النسبي للمسألة قبل الشروع في نقاشها، وبأنها جزءٌ من كل، يبدو ضرورياً في مواجهة محاولات تحويل شعار المركزية وشعار اللامركزية إلى شعارين سياسيين مكتملين جامعين مانعين!

بعد هذه المقدمات الضرورية، فلننتقل لطرح بعض الأفكار العامة حول المركزية واللامركزية.

تناقض في الوحدة

استخدم حزب الإرادة الشعبية في أدبياته ووثائقه منذ عام 2005 تقريباً مقولة «الثنائية الوهمية»، والتي تستند أساساً إلى الفهم الديالكتيكي للتناقضات وتصنيفاتها، وخاصة بين تناقض أساسي، وتناقض رئيسي، وتناقض ثانوي. ودونما إطالة، فإنّ «الثنائية الوهمية» هي استخدام سياسي آني لتناقضات ثانوية في محاولةٍ لتقديمها على أنها هي التناقضات الأساسية.

ولكي تكون الأمور أوضح، نستحضر المثال المعروف والمفهوم وهو: الثنائية الوهمية «مؤيدين/ معارضين»، أو «نظام/ معارضة»، وكذلك الثنائيات الوهمية التي تصور الصراع طائفياً أو قومياً وإلخ. المشترك بين هذه الثنائيات الوهمية أنها تسعى لتغطية حقيقة الصراع بين المنهوبين أي الشعب السوري، وبين الناهبين أي النخب الفاسدة والمتشددة في كل من النظام والمعارضة على حدٍّ سواء.

التناقض بين المركزية واللامركزية ليس قطعاً ثنائية وهمية، بل هو تناقض ضمن الوحدة، وله أحد حلّين: إما حلّه عبر التوافق بين النقيضين، أو حله عبر تدمير تلك الوحدة (أي عبر تدمير الدولة/ البلد/ الوطن).. وهو ما سنوضحه أكثر تالياً، ولكن قبل ذلك، فإنّ الأطراف التي تطرح المركزية واللامركزية كنقيضين لا يمكن التوفيق بينهما، تسعى إلى خلق ثنائية وهمية تفيد اصطفافات سياسية لا تصب في مصلحة السوريين، بل ضد مصلحتهم تماماً. ورفع شعار المركزية أو رفع شعار اللامركزية كشعارٍ سياسي أول، وبمعزل عن تصور شامل لبقية العوامل الكبرى المؤثرة التي ذكرناها آنفاً، هو بحد ذاته تضليلٌ للناس، وإيهامٌ لهم بأنّ مجرد تحقق المركزية، أو اللامركزية، هو الحل والعلاج الشافي، علماً أنّ كلاً من الشعارين يمكنه أن يحمل ألف طريقة للتطبيق، وفقاً للقيم التي ستأخذها بقية المتحولات ضمن الرسمة الشاملة.

إذا نحينا جانباً الاستخدام السياسي الآني للشعارات حول المركزية واللامركزية، فإنّ العلاقة الحقيقية بين المركزية واللامركزية ليست علاقة ثنائية وهمية على الإطلاق، بل هي علاقة نقيضين ضمن وحدة (هي وحدة البلاد ووحدة شعبها)، يعملان وفقاً لقانون وحدة وصراع المتناقضات، ولا يمكن أن يوجد أحدهما دون الآخر؛ فمركزية دون لامركزية في الظروف السورية تعني دولة بلا شعب (وبالملموس تعني ما يجري بشكل مستمر من عمليات تجريف كبرى للشعب السوري من بلاده)، ولامركزية دون مركزية، تعني شعباً بلا دولة (وهو ما يجري العمل عليه بشكل ملموس باتجاه تقسيم البلاد).

وإذاً، فالمركزية واللامركزية نقيضان في وحدة، فصل أحدهما عن الآخر يعني تدمير تلك الوحدة، سواء عبر إفراغ الدولة من سكانها، أو عبر تقسيم الدولة.

«الأحادية الحقوقية»

من الشائع، أن يتم تصنيف المركزية واللامركزية كنقيضين، على الشعوب والدول أن تختار واحداً منهما، أو بأحسن الأحوال أن تختار نقطة توازنٍ ما بينهما، وإما أن تكون تلك النقطة أقرب للمركزية فيكون النظام مركزياً، أو أن تكون أقرب للامركزية فيكون النظام لا مركزياً. أي أنّ الصورة تبدو أقرب لخطٍّ ببُعدٍ واحد له نهايتان في إحداهما المركزية وفي الثانية اللامركزية، والاختيار محصور ضمن هذا الخط.

ومتى بدأ نقاش التفاصيل مع أصحاب هذا الرأي أو ذاك، يُقر دعاة المركزية بأنّهم موافقون بالتأكيد على وجود قدرٍ ما من اللامركزية، ويقر دعاة اللامركزية بأنهم موافقون بالتأكيد على وجود مركز بقدرٍ ما من الصلاحيات.

أي أنّ كلا الفريقين، وبعيداً عن الشعار المرفوع، يُقرّان في الإطار العملي أنّه لا توجد مركزية دون قدرٍ ما من اللامركزية، ولا توجد لامركزية دون قدرٍ ما من المركزية، ويصبح الخلاف والنقاش هو حول طبيعة التناسب بينهما، وبالملموس «الحقوقي»: طبيعة الصلاحيات وتوزيعها.

قد يبدو هذا النقاش عملياً وسليماً من وجهة نظر حقوقية بحتة، ولكن النظر إليه بمنظور أوسع، سياسي، واقتصادي- اجتماعي، يكشف أحاديته وعجزه عن قراءة الواقع ومعالجته بشكل عميق...

للاقتراب من الواقع أكثر، ينبغي إضافة بعض الأوصاف الملموسة لكلٍ من المركزية واللامركزية...

مركزية القهر ولامركزية الفوضى

نقصد بـ«مركزية القهر» أو المركزية المفرطة، ذلك التمركز في الصلاحيات والسلطات ضمن دولة من الدول، والذي تتجمع خيوطه في يد السلطة المركزية بغض النظر عن رضا الشعب، وبالضد منه. ويتم استخدام أدوات القهر المختلفة في تثبيت تلك المركزية، ابتداءً من أدوات القهر الصلبة (أمن وسجون واعتقالات وقوة غاشمة على العموم)، ومروراً بأدوات القهر الاقتصادية (فساد ومحسوبيات وامتصاص للثروات باتجاه المركز وإلخ)، ووصولاً لأدوات القهر الناعمة (الإعلام والثقافة والأيديولوجيا وإلخ).

يبدو شكلياً، أنّ مركزية القهر أو المركزية المفرطة هي النقيض المطلق للامركزية؛ ولكن واقع الأمور هو أنّ مركزية القهر، وكلما طال أمدها، تؤسس وتكرس لامركزية فوضوية تنمو بالتوازي مع نمو المركزية.

كمثال ملموس: إنّ المركزية المفرطة الممتدة عبر عقود في سورية، قد أسست الظروف المناسبة لنفور الأطراف من المركز عند أول سانحة؛ وقد بدا ذلك واضحاً وملموساً خلال السنوات العشر الماضية، حيث باتت وحدة البلاد مهددة بشكل مستمر، وظهر أنّ التماسك الوطني تحت سلطة مركزية القهر لم يكن أكثر من تماسكٍ شكلي تنمو تحت سطحه لامركزية فوضوية مستعدة للانفلات من العقال عند أول فرصة مناسبة؛ لأنّ التلازم بين المركزية والقهر في مركزية القهر، يصوّر للناس أنّ التخلص من القهر يمر عبر التخلص من المركزية.

وإذا كان الكلام السابق يُوصّف إلى حدٍّ ما الوضع السوري خلال عقودٍ مضت، فإنّه يوضح أنّ التناقض المطلق المتصور أو المتخيل بين المركزية واللامركزية ليس موجوداً في الواقع؛ فمركزية القهر ولامركزية الفوضى يوجدان في آنٍ معاً ويغذي أحدهما الآخر بشكل مستمر.

وينبغي الانتباه في معالجة هذا التزاوج بين مركزية القهر ولامركزية الفوضى، أنّ أحد أهم أسسه هو عمليات النهب الاقتصادي وإدارتها، وبتعبير آخر عملية إعادة توزيع الثروة لمصلحة قلة اقتصادية على حساب الجميع. أي إنّ هذه التركيبة وهذا التزاوج مصمم أساساً لتكريس النهب من الأطراف باتجاه المركز، عبر التحكم العالي بمختلف أشكال العمليات الاقتصادية، وكل أدوات القهر الصلبة والناعمة تعمل خدمة لهذا الشكل من التوزيع الجائر للثروة.

يضاف إلى ذلك، أنّ مركزية القهر وإنْ كانت مركزية مفرطة إلا أنها بالضرورة مركزية هشة، لأنها مفروضة فرضاً وبالضد من مصالح المحكومين، ولذا فهي تُخبئ في رحمها لامركزية مفرطة هي الأخرى، ولكن أيضاً فوضوية وهشة. والمثال السوري ليس المثال الوحيد في هذا السياق، بل ومعه المثال العراقي وغيره الكثير من الأمثلة التي كانت تبدو شكلياً كمركزية قوية، ولكن توضح عند أول معركة جدية أنها مركزية هشة نمت بنموها لامركزية فوضوية وهشة أيضاً...

مركزية التراضي ولامركزية سلطة الشعب

على النقيض من مركزية القهر، فإنّ مركزية التراضي تقوم على الرضا العام للمحكومين؛ أي على تمثيلهم تمثيلاً حقيقياً عبر مركزٍ يُلبي مصالحهم ويعمل لخدمتها، وبالجوهر يعمل على تنمية الثروة العامة وتوزيعها توزيعاً عادلاً، ويُكرّس أدوات القهر التي تمتلكها الدولة لتخديم هذا التوزيع.

مركزية من هذا النوع، هي بالضرورة مركزية قوية، لأنها توحد الشعب حقاً، وليس باستخدام القهر الصلب أو الناعم. ومركزية من هذا النوع، تعيش بالضرورة بالتلازم مع لامركزية قوية تقوم على سلطة الشعب في المناطق؛ إذ لا يمكن للشعب أن يمتلك سلطة مركزية على دولته، دون امتلاكه لسلطة حقيقية في المناطق التي يعيش فيها، والعكس بالعكس؛ لا يمكن للشعب أن يحوز سلطة في المناطق، دون أن يحوز السلطة في المركز... وبكلمة، فإنّ مركزية التراضي تفترض بالضرورة لامركزية سلطة الشعب في المناطق.

يكون المركز قوياً كلما كانت الأطراف أكثر اشتراكاً في تحديد سياسات الدولة، وكلما كان تمثيلها ضمن المركز أقوى. وتكون الأطراف أقوى واللامركزية أقوى، كلما كان المركز قوياً وذا صلاحيات حقيقية نابعة من التراضي ومن مصلحة عموم الشعب.

الهرب من المركز أم السيطرة عليه؟

استطالة العهد بمركزية القهر، تدفع الأطراف للتفكير بأحد سبيلين سنناقشهما على التوالي:

الأول: محاولة الهرب من المركز

أيّاً تكن الشعارات التي يتم بها تغليف هذا الهرب، فإنّ مضمونها يبقى بجوهره كالتالي: (لا نريد منك شيئاً، فقط دعنا وشأننا وارحمنا من عملية النهب والسيطرة وأدواتها). وفي الحالة السورية، يعكس هذا النوع من التفكير شكلاً من أشكال فقدان الأمل بعملية تغيير جذريٍ شامل، ويتكرس هذا النوع من التفكير كلما طال عهد الأزمة، وكلما طال تعطيل الحل السياسي الشامل.

عدا عن خطورة هذا النوع من المقاربات على وحدة البلاد ووحدة الشعب السوري، فإنّ حقيقة الأمر هي: أنه حتى لو تعاملنا مع هذه المقاربة بعيداً عن مصلحة البلاد ومصلحة الشعب ككل، في محاولة لتخديم مصالح الناس ضمن منطقة من المناطق في البلاد، فإننا سنجد أنفسنا أمام واقع يجعل من هذه المقاربة وهماً من أخطر الأوهام...

فسورية كلها مناطق حدودية، وسورية كلها موضع صراع إقليمي ودولي، وأيّ منطقة تحاول الهروب من المركز ستقع بالضرورة تحت سطوة وقهر مراكز أخرى إقليمية ودولية، ابتداءً من التحكم الاقتصادي ووصولاً للتحكم السياسي والعسكري، ولن تكون قادرة بحال من الأحوال بشكل منعزل أن تلبي مصالح سكانها.

الثاني: السيطرة على المركز

الحل الوحيد الممكن هو: أن تسيطر الأطراف على المركز، أي أن يسيطر الشعب السوري حقاً وفعلاً على السلطة في كل مناطق بلاده، وهذا لا يمكن تحقيقه سوى عبر حل سياسي شامل وفق 2254، وعبر تعاون بين السوريين في كل المناطق، وبعيداً عن أوهام الحسم والإسقاط، وبعيداً عن أوهام الهرب من المركز.

بسيطرة الشعب السوري على المركز، أي على السلطة، أي على النظام وعلى المعارضة معاً، يمكن بناء مركزية تراضٍ قوية، متراكبة مع لامركزية قوية لسلطة الشعب في المناطق.

خطورة الفهم الجغرافي للمسألة

بين المخاطر الكبرى في التعامل مع المركزية واللامركزية، اختصارها بالبعد الجغرافي؛ حيث تصبح دمشق، أو دمشق وحلب، المركز، وبقية المحافظات هي الأطراف.

هل يمكن اعتبار ملايين الفقراء والمهمشين الذين يعيشون في دمشق وحلب، وأحزمة البؤس حولهما خاصة، مركزاً؟ اعتبارٌ من هذا النوع هو ضربٌ من الكوميديا السوداء.

حقيقة الأمر، أنّ الأطراف هي كل مناطق سورية، وكل الشعب السوري، والمركز ليس مدينة من المدن السورية، بل هو مركز فوق كل المدن وفوق كل البلاد.

وإذا كان هنالك تفاوت حقيقي وواقعي بين حجم الخدمات والفرص في المدينتين (دمشق وحلب) وبين حجمها في بقية البلاد، فإنّ هذا التفاوت هو بحد ذاته أحد وسائل التحكم بتوزيع الثروة على مستوى البلاد ككل، ولمصلحة أصحاب الأرباح ضد أصحاب الأجور، وليس لمصلحة ساكني دمشق أو حلب.

بهذا المعنى، فإنّ فهم المركز والأطراف انطلاقاً من الوقائع الاقتصادية، هو فهم لا غنى عنه في بناءٍ جديد لسورية جديدة بصيغة مركبة من مركزية قوية ولامركزية قوية، مركبة من مركزية تراضٍ ولامركزية لسلطة الشعب في المناطق.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1241