المركزية واللامركزية... أفكار أولية
ألقت مذكرة التفاهم الموقعة بين حزب الإرادة الشعبية ومجلس سورية الديمقراطية يوم الاثنين الماضي في موسكو، ضوءاً كثيفاً على مسائل المركزية واللامركزية في سورية المستقبل. خاصة وأنّ متطرفين ومتشددين من الأطراف السورية وغير السورية، من الذين لا مصلحة لهم بالوصول إلى حل للأزمة، قد سارعوا إلى التدليس على المذكرة والكذب بالقول: إنها تدعو إلى الفيدرالية بل وإلى التقسيم، في محاولة منهم للنيل منها، ولتقليص آثارها التي أحسنوا في توقع ضخامة حجمها...
لا نسعى في هذه المادة إلى تقديم رؤية تفصيلية لخريطة المركزية واللامركزية في سورية المستقبل، ليس لأن المساحة لا تكفي فحسب، بل ولسببين أساسيين أكثر أهمية، الأول هو أنّ أي تصور يقدمه أي طرف سوري حول المسألة هو مجرد اقتراح لا يتحول إلى واقع إلا عبر الحوار والتوافق مع الأطراف السورية الأخرى، وعبر العملية الشاملة للحل السياسي. الثاني هو أننا لا نملك تلك الخريطة التفصيلية، ونزعم أنه ليس من طرف سوري يملكها وحده، فهي شديدة التعقيد وغنية بكم هائل من التفاصيل لا يمكن حصره إلا عبر الحوار أيضاً، وبإشراك المختصين وأبناء المناطق السورية المختلفة.
بعد واحد
وعليه، فإنّ ما نحاول تقديمه هنا، هو مجرد تصور عامٍ وأولي حول المسألة. ومع ذلك، نزعم أنه ضروري كنقطة بدء.
تشير النقاشات المختلفة حول المسألة إلى تصور تبدوان معه المركزية واللامركزية نقيضان يزداد أحدهما بنقص الآخر والعكس بالعكس؛ أي كلما زادت المركزية قلت اللامركزية، وكلما قلت المركزية زادت اللامركزية. هذا التصور هو ما نسميه رؤية أحادية البعد للمسألة، ونعتبره خاطئاً.
فلننظر إلى المثال السوري ما قبل الأزمة. من الصحيح أنّ المركزية في سورية قبل الأزمة كانت مركزية شديدة بالمعنى القانوني، الإداري والسياسي والأمني والمالي والاقتصادي. المركز يهيمن على كل شيء، ابتداءً من الخطط العامة للدولة ووصولاً إلى تعيين أصغر موظف في أبعد مؤسسة في أبعد نقطة من البلاد. وإذا قسنا الأمور وفقاً للنظر ببعد واحد، لقلنا إنّ اللامركزية في سورية كانت معدومة ما قبل الأزمة. ولكن إذا دققنا النظر أكثر، وأقصد بالضبط أننا إذا نظرنا ما الذي حل بسورية ابتداء من 2011، لوجدنا أنّ «المركزية الشديدة والمهيمنة» ورغم أنها كانت حقيقية، إلا أنها لم تصهر البلاد في كيان واحد مترابط، بل على العكس من ذلك، فإنها قوّت لا مركزيات عديدة غير ظاهرة، قائمة على أسس متعددة بينها أسس اقتصادية من حيث الجذر وأسس انتماء ما تحت وطني من حيث الظاهر.
بكلام آخر، فإنّ «المركزية الشديدة» ترافقت مع «لا مركزية شديدة»؛ ببساطة لأن المركزية الشديدة التي تقوم على التوزيع غير العادل للموارد وللتنمية، وعلى التهميش والإقصاء، لن تنتج انصهاراً للمناطق والناس ضمن وحدة البلاد، بل ستنتج انصهاراً شكلياً مؤقتاً بقوة القمع، سرعان ما ينهار عند أول سانحة.
بُعدان
بهذا المعنى، فإنّ البحث عن مركزية فعالة تحفظ وحدة البلاد وتقوّيها، تحتاج إلى ممارسة واسعة للديمقراطية في كل أرجاء البلاد، وتحتاج ضمناً إلى لا مركزية فعّالة في المناطق، يمارس الناس من خلالها سلطتهم الرقابية على أجهزة الدولة بشكل مباشر... وهذه تحتاج إلى أشكالها التمثيلية والانتخابية على المستوى المحلي والمستوى المركزي.
ثلاثة أبعاد
كل ذلك لن يكون له معنى، دون البعد الاقتصادي التنموي للمسألة؛ فانتماء كل سوري إلى بلده، في أية بقعة سكنها ضمن البلاد، تعني ضمناً أن يحصل على فرصة تكافئ أي سوري آخر بالمعنى المعيشي والتعليمي والصحي... هذا لا يتم إلّا عبر تنمية متوازنة لكل البلاد... ولأنّ البلاد بأسرها شبه مدمرة، ربما نقف الآن أمام فرصة تاريخية لإعادة بنائها بشكل متوازن.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 982