افتتاحية قاسيون 1242: قمّة شنغهاي: للشرق أنيابٌ أيضاً
هناك في تيانجين الصينية اجتمع ممثلون عن نصف العالم، ووقف على منصة واحدة قادة دول أوراسيا الذين يشكلون اليوم المركز الحقيقي للعالم، ويساهمون على أقل تقدير في ثلث الناتج الإجمالي العالمي، وكان من الممكن أن تكون هذه القمة كسابقاتها، لكن الصين ومن خلال العرض العسكري الذي تلا أعمال القمة قدّمت نفسها كمظلة عسكرية للقمة ومخرجاتها، وكشفت عن بنية عسكرية متطورة جرى تمويلها بميزانية توازي ربع الميزانية العسكرية الأمريكية، وأظهرت الجيش الأمريكي وكأنه ينتمي إلى عصرٍ سابق، وزاد من وزن هذا العرض وقوف كلٍ من الرئيس الروسي والرئيس الكوري الشمالي إلى جانب الرئيس الصيني في لحظة نادرة غير مسبوقة وأشبه بإعلان عن تحالف ثلاثي.
أبعاد «شنغهاي» العميقة لا يجوز قراءتها من حدث واحد، بل هي في الحقيقة نقطة نوعية جديدة في تحول عالمي في ميزان القوى، وهو ما استشرفناه في وثائقنا قبل عقدين من الزمن، ووصلنا في 2006 للقول: إن «ميزان القوى بدأ بالتغيّر لغير الصالح الأمريكي على المستوى الكوني، رغم كل أسلحة البطش التي تمتلكها الولايات المتحدة» وقلنا أيضاً وفي العام نفسه: إن «الاقتراب المتوقع في المدى المنظور للخطر الأمريكي من حدود روسيا والصين سيضطرهما لاتخاذ مواقف أكثر جذرية من الأطماع الإمبريالية الأمريكية» ولأن الدلائل الملموسة على هذه الطروحات كانت لا تزال في شكلها الجنيني، لم تبد قابلة للتصديق بنظر الكثيرين، ولذلك كنا على قناعة بأن «هزيمة عسكرية واحدة جدية للإمبريالية الأمريكية تكفي لبروز كل مؤشرات الانهيار المتوقع» وهذا ما بات على وشك التحقق في أوكرانيا، وهو ما يفسر توقيت قمة شنغهاي.
في الوقت الذي وصف وزير الخزانة الأمريكي سكوت بيسنت المشاهد القادمة من قمة تيانجين بأنّها «استعراضية واحتفالية للصورة دون مضمون»، اعترف الآخرون بأنّها «نذير» بانتهاء الهيمنة الأمريكية، وهو ما ذهبت إليه مجلة «The Week» البريطانية التي عنونت غلافها: «شي، يتحدى الغرب بنظام عالمي جديد»؛ فالولايات المتحدة الأمريكية وأتباعها في الغرب عملوا طوال السنوات الماضية على تأخير هذا الاستحقاق، ولكنّهم وتحت تأثير أزمتهم العميقة المتفاقمة كانوا محكومين بسلوك عدائي تجاه الجميع، ما جعلهم يخسرون في مقابل تفاهمات أخرى عميقة تجري في الشرق، ولذلك رأينا رئيس الوزير الهندي للمرة الأولى منذ ثمانية سنوات يقف في الصين إلى جانب الرئيس شي جين بينغ والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في تحدٍّ واضحٍ للتحذيرات الأمريكية، غير آبهٍ بتبعات ذلك العصيان العلني.
الدول التي تجمّعت في الصين تعلم أن خلاصها من النهب والبلطجة الأمريكية لن يكون إلا ببناء توافق بيني متين، يكون قادراً على لجم الولايات المتحدة، حتى وإن بالقوة، فلذلك ظهرت مخرجات هذه القمة واضحة، فمن جهة إعلانٌ عن بنك جديد لتنمية ومنح وتمويل وتعاون اقتصادي ومالي بين بنوك دول المنظمة، مع تأكيد جديد على إنهاء دور الدولار واستخدام العملات المحلية والعملة الصينية الإلكترونية لتنفيذ المعاملات التجارية، من جانب آخر التزمت دول «شنغهاي» بخطة عمل استراتيجية واحدة للسنوات العشر القادمة، وجددت التزامها بمبادئ «روح شنغهاي» التي يرون فيها أساساً كافياً لبناء عالم جديد، بعيد عن البلطجة الأمريكية، يسوده التفاهم والتعاون وتتحول فيه الحدود السياسية إلى شرايين لتبادل مقومات الحياة، بدلاً من الرصاص والقذائف.
إن إدراك الواقع الذي نعيش فيه وطبيعة التوازنات القائمة في العالم اليوم، ينبغي أن يكون نقطة انطلاق لتعافي سورية وانتقالها إلى بر الأمان، وإن كانت الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني بالاستناد إلى رموز الفساد والاستبداد في سورية قد حمّلوا السوريين كل هذه العذابات فنحن اليوم أمام فرصة حقيقة وحاسمة، بأن نكون حيث ننتمي فعلاً، في الشرق، مركز العالم الجديد...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1242