مجلس الشعب والتمديد والتجديد لرئاسة هيئة التفاوض... والفضاء السياسي القديم!

مجلس الشعب والتمديد والتجديد لرئاسة هيئة التفاوض... والفضاء السياسي القديم!

تزامن خلال الشهر الماضي، على مستوى «النخب السياسية» في سورية، حدثان «ديمقراطيان»، يحملان إشارات واضحة ودلائل عميقة عن مدى الابتعاد والغربة بين تلك «النخب» وبين عموم السوريين، على اختلاف اصطفافاتهم.

الحدث الأول: هو انتخابات مجلس الشعب، في دوره التشريعي الرابع بعد إقرار دستور 2012، والذي شهد مشاركة شعبية شديدة التواضع، ناهيك عن التكرار الممجوج لعرس الصور والابتسامات والشعارات المعتادة، بعيداً عن البرامج السياسية وبعيداً عن قانون انتخاب حقيقي يسمح بتنشيط الحركة السياسية الوطنية في البلاد، ومواصلةً لقانون انتخابات مستمر في جوهره منذ أكثر من 50 عاماً، ويقوم على تحويل مجلس الشعب/ البرلمان، من أداء وظيفة التمثيل السياسي للناس، إلى أداء وظيفة التمثيل الإداري المحلي لهم، وكأنه مجلس إدارة محلية موسع، له حق حجب الثقة عن الحكومة، وليس له الحق في منحها!

الحدث الثاني: هو إقدام هيئة التفاوض السورية على «استنساخ» و«تطوير» تجربة «الحزب القائد» - الائتلاف، الذي انتهج خلال السنوات الماضية سياسة ديمقراطية من طراز رفيع، تقوم على تبديل الطرابيش بين مجموعة محددة من شخوصه. «التطوير» المقصود هو تعديل النظام الداخلي للهيئة، بما يسمح بتمديد رئاسة الهيئة لتصل فعلياً إلى 4 أو 5 سنوات (سيظهر أي الرقمين أصح بناءً على الفتوى التي ستلحق تعديل النظام الداخلي، والتي يبدو أنّ البعض لا يريد أن يجعلها بأثرٍ رجعي فحسب، بل على طريقة «ضم الخدمات»)؛ يمكن تسمية هذا التطوير بأنه انتقال من تبديل الطرابيش إلى تثبيتها...

التشابه ليس شكلياً!

من الصحيح أنّ عموم السوريين، وخلال سنوات عديدة منذ 2011، قد انقسموا بحدةٍ بين مؤيدين للنظام، ومؤيدين للمعارضة (بشكلها الرسمي المدعوم غربياً بالدرجة الأولى). ولكن من الصحيح أيضاً، أنّ التجربة الملموسة، والمأساة الملموسة، قد علّمت الناس أنّه تقريباً «لا فرق بين الرايتين»؛ فالمتشددون على طرفي المتراس، يتفقون في جملة من الأساسيات:

رفض الحل السياسي ورفض الحوار، في البداية بشكلٍ علني، ومن ثم بشكلٍ مستتر، عبر القبول به اسمياً، والعمل ضده عملياً.
التعويل على الغرب، وعلى الغرب وحده بوصفه «المخلص»؛ سواء عبر العمل من تحت الطاولة وفوقها على «خطوة مقابل خطوة»، أو عبر التوسلات والمناشدة التي يصبها البعض استجداءً لاستمرار العقوبات واستمرار اللاءات وتكريسها.
التطابق في البرنامج الاقتصادي- الاجتماعي، المعلن أو المطبق دون إعلان؛ فكلا الفريقين متفق على الاتجاه الليبرالي اقتصادياً، وعلى التوجه غرباً، والذي يصب في نهاية المطاف في مزيد من إفقار الشعب السوري، وفي تكريس التبعية الاقتصادية للغرب، وفي تعزيز عوامل الانفجار الداخلي خدمة لمصلحة قلة ناهبة... (وإذا كانت محاكمة الحكومات السورية وسياساتها الاقتصادية أمراً ممكناً انطلاقاً من الأفعال، ومحاكمة المعارضة المدعومة غربياً انطلاقاً من الأقوال والسلوك السياسي العام، فإنّ السنوات الخمس الأخيرة التي تمكنت فيها أقسام من المعارضة من السيطرة على مناطق في سورية، قدمت للسوريين ما يكفي من الإثباتات والأدلة أنّ لا اختلاف حقيقياً في إدارة الشأن الاقتصادي-الاجتماعي بين الجهتين).

على الصعيد الديمقراطي، وعلى صعيد الحريات السياسية، سمحت التجربة العملية أيضاً، بإظهار حقيقة البرنامج الذي تعد به أطراف في المعارضة، عبر سلوكها الملموس على الأرض في مناطق سيطرتها؛ فالاعتقال اعتقال والحبس حبس والقمع قمع وإلخ... أضف إلى ذلك «الممارسات الديمقراطية» الداخلية ضمن الأجسام التي تقدم نفسها كمعارضة رسمية، بما في ذلك تبديل الطرابيش وتثبيتها...

إنّ هذا التلاقي والتقاطع، ليس أمراً تصادفياً بحالٍ من الأحوال، فجوهر المسألة هو أنّ الصراع الذي يخوضه المتشددون من الطرفين، باستخدام الشعب السوري ومعاناته، لم يكن في يومٍ من الأيام صراعاً من أجل طبيعة النظام السياسي الاقتصادي-الاجتماعي المطلوب، بل كان صراعاً من أجل السلطة، مع إبقاء النظام على حاله... أي ليس صراعاً لمصلحة الشعب السوري، بل صراعاً على من «له الحق» في نهب هذا الشعب وحكمه.

دائماً ما أتذكر في هذا السياق أحد النقاشات التي جرت في جنيف عام 2017، عشية تشكيل هيئة التفاوض السورية الحالية. كان موضوع النقاش هو التصور الذي يقدمه كل من الطرفين لما هو تفسير «جسم الحكم الانتقالي» الذي يشير إليه القرار 2254. وطرفا النقاش كانا منصة موسكو من جهة، والهيئة العليا للتفاوض السابقة التي كان يقودها رياض حجاب ونصر الحريري.

في خضم ذلك النقاش، قدم أحد الرفاق في منصة موسكو تصورنا عن مفهوم جسم الحكم الانتقالي، وفي إطار التقديم رسم على سبورة ضمن القاعة تخطيطاً عاماً لطبيعة النظام القائم حالياً، وإلى جانبه تخطيطاً عاماً لتصورنا عما يجب أن تكون عليه الأمور.
التعليق الذي قدمه أحد قيادات الهيئة العليا للتفاوض في حينه تلخص بالتالي: أشار إلى المخطط الذي يشرح وضع النظام القائم وقال التالي: «هل ترون هذا المخطط؟ مخطط النظام القائم حالياً؟ أنا أراه ممتازاً، ولا أريد فيه أي تغيير، فقط تغيير واحد، فلنُزِل رأسه ونضع رأساً جديداً، وسيكون كل شيء على ما يرام»!

هذا التعليق البسيط والمباشر، يختزل المسألة كلّها؛ فعند متشددي المعارضة، وبخاصة منهم التابعين للغرب بشكلٍ أو بآخر، ليست المشكلة هي التوزيع الإجرامي وغير العادل للثروة، وليست المشكلة هي التدني المريع في مستوى الحريات السياسية، وليست المشكلة هي طبيعة العلاقات الدولية، ولا أي شيء آخر... المشكلة تتلخص في شيء واحد فقط: لمن السلطة؟

فضاء سياسي قديم وجديد

بالمعنى النظري، تُعبّر الأزمات الكبرى التي تعيشها الدول، بما فيها الأزمة السورية -التي انفجرت عام 2011، ولكنها كانت قائمة وتختمر وتتصاعد منذ عقود قبل ذلك- عن انقطاع الصلة بين القوى السياسية والنخب والفضاء السياسي على العموم، وبين عامة الناس؛ ويعود ذلك بجزءٍ منه إلى تراجع الحركة الشعبية وسباتها الدوري الذي تدخل فيه كل نصف قرن تقريباً.

مع أول صعود للحركة الشعبية، ونتيجة تراكم الانفصال عن الناس وعن الواقع الذي يعيشه الفضاء السياسي القديم، وابتعاده عن تمثيل مصالح الناس وآلامها، وحتى ابتعاده عن فهم تلك الآلام، تبدأ المراسم التاريخية لدفن الفضاء السياسي القديم.
الجانب الأكثر صعوبة بالمعنى التاريخي، هو مخاض ولادة الفضاء السياسي الجديد الذي ينطلق من الناس ويُعبر عنها وعن مصالحها... وهذه هي عملية تاريخية، تحتاج وقتها الكافي لتكتمل، وأول مؤشرات اقترابها من الاكتمال، هو الإجماع الشعبي المتزايد على رفض النخب من طرفي «الثنائية الوهمية» القائمة، والبدء بالبحث عن التمثيل الحقيقي، وعن الصراع الحقيقي الذي يجب أن يُخاض...

نحن بالضبط في هذه المرحلة، والتي سيكون تطبيق الحل السياسي وفقاً لـ 2254 مجرد بداية لها، ولكنها بداية ستدخل عملية ولادة الفضاء السياسي الجديد، ودفن القديم، في طورٍ من التسارع الكبير... ولذا ليس من المستغرب نهائياً، استمهال النخب القائمة وصبرها الاستراتيجي، بل ورغبتها في إطالة الأزمة إلى ما لا نهاية، لأنها تعرف تماماً أن بداية الحل السياسي، هي أيضاً بداية مراسم نقلها إلى منتهاها التاريخي...

معلومات إضافية

العدد رقم:
1186
آخر تعديل على الجمعة, 09 آب/أغسطس 2024 19:25